القدس العربي -لندن ـ شادي لويس بطرس ليلة الفيسبوك، هي الليلة التي اقتحم فيها جنود الاحتلال بيت «نشيد» لتفتيشه، وقبل أن يغادروا قام واحد من المجندين بالبحث عن صفحة لمغنية عبرية على الفيسبوك بينما كان يعبث بلابتوب ابنها، خالد، بحجه التأكد من المواقع الأخيرة التي زارها.
تبدأ رواية «الخيمة البيضاء» (من إصدار نوفل- هاشيت أنطوان، 2016) للروائية الفلسطينية، ليانة بدر، من ذكرى تلك الليلة، منطلقة في رحلة، تبدأ في رام الله وتنتهي على حاجز قلندية، التي تتقاطع عليها تحركات شخصيات الرواية.
تمر نشيد في صباح ذلك اليوم الذي تمتد أحداث الرواية عبر ساعاته الأربع والعشرين ، بوسط مدينة رام الله، عابرة الميدان الذي تغير اسمه أكثر من مرة، من «ميدان الساعة»، إلي «ميدان ياسر عرفات»، بعد رحيل القائد الكبير، وبينهما كان يدعى «ميدان المغتربين»، في رحلة تمر بتحولات المكان. لا ترصد الرواية فقط تغيرات الجغرافيا والمعمار، التي بفضلها حلت الأبراج بدلا من البيوت الحجرية القديمة، واجتثت أشجار الأرز والتوت من الشوارع بالكامل، بل أيضا تتبع تراكمات ملصقات الدعاية الانتخابية والإعلانات التجارية على حوائط المدينة، والأثواب المصممة على طريقة التطريز الشعبي الفلسطيني، التي أضحت تصنع في الصين، ومنتجات الطعام التي صار معظمها معلبا بعد احتلال 1967، ومعها تغيرت اللغة على لافتات المحال وقوائم المطاعم التي أضحت عبرية أو غريبة وغامضة.
تتشابك تلك التحولات مع تبدلات وقائع شخوص الرواية وأحوالهم، فنشيد الذي هاجر زوجها الناشط المدني السابق أثناء الانتفاضة الأولى، والمنشغل عنها بشركة الأدوات الكهربائية التي يملكها خارج البلاد، تركت هي الأخرى تنظيمها النسائي الذي تفرق أعضاؤه، لتعمل في منظمة «إن. جي. أو» تهتم بتعزيز صحة المرأة. فبين غياب أبيها، الذي تقاعد من وظيفته العسكرية، بعد تاريخ طويل في المعارك والحصار من بيروت إلى تونس، منسحبا إلي مزرعه العائلة وحاصرا انتباهه في إنتاج الصوبات البلاستيكية من ثمار البندورة، وانصراف الرفاق القدامى إلى شؤونهم تاركين كل شيء على عاتق السلطة، وبعد أن ولى الزمن الذي كانت فيه» المشاكل واضحة تماما، والصديق معروف، والمآسي نفسها كانت تصيب الجميع بالعدل والقسطاط»، كان على نشيد أن تعمل «لتغير نفسها وتحول العالم بشروط أفضل للحياة». وبينما تنطلق نشيد في رحلتها إلى القدس، غير عابئة بالتهديدات التي تصلها، لمساعدة بعض الناشطات في إنقاذ فتاة مهددة بالأذى من قبل أهلها بعد ارتباطها العاطفي على غير رغبتهم، كان جارها عاصي، الفدائي القديم والصحافي الثوري، والعائد بعد خمسة وعشرين عاما من الغربة ليواجه تبرم المعارف والأهل من العائدين، يجد صعوبة في التأقلم مع حياته الروتينية كموظف في كيان إداري، وفي فهم ابنته بيسان ويقينها بأن أغنية الراب الذي ستطلقها مع صديقها خالد، «ستغير الأمور»، وإن كان عزاءه الوحيد أنه على وشك بلوغ سن الستين، الأمر الذي سيسمح له بالحصول على تصريح لدخول القدس.
وفيما تنطلق مسارات الأحداث من رام الله إلى القدس، تغزل أحداث الرواية صورة مثقلة بتقاصيل الحواجز والبوابات والجدران ونقاط التفتيش والمستوطنات، وتشوهات المكان والزمن التي يفرضها الاحتلال. تنجح ليانة بدر ببراعة استثنائية في تأطير المكان في روايتها، لا بوصفه محورا للصراع، وغاية للامتلاك فقط، بل كأداة للمستعمر للولوج إلى أرواح ضحاياه واستلاب آدميتهم وسحقها، عبر هندسته الدقيقة للمكان وتقسيمه وتصنيفه، وتسوير نطاقاته، وفرض البوابات على نقاط التقائها، وزرع المستوطنات في مراكزها، والتحكم في حركة الأفراد فيما بينهم، وتصنيفهم بحسب السن ومكان الميلاد والجنس والدين، وإخضاعهم للاستسلام لإجراءات استخراج تصاريح المرور، وعمليات التفتيش والمراقبة. يفرض الاحتلال سطوته على الزمن أيضا، فبين انتظار أبطال الرواية في الطوابير على الحواجز، وتمني الوصول لسن الستين للفوز بالتصريح للعبور، لا يعلن المستعمر عن امتلاكه لأعمار المستعمرين وحيواتهم فقط ، بل ويعربد في زهو قدرته على تعطيل الزمن وإعطاب حركته.
تقفز «الخيمة البيضاء» في خفه بين واقعين، الواقع المادي المستعمر مكانا وزمنا، وواقع افتراضي لا ينجو من عبث جنود الاحتلال به في «ليلة الفيسبوك»، طارحة أملا يتوزع بينهما. يظل خالد قادرا على أن «يشاهد كل شيء، على الرغم من أنه لم يتحرك شبرا واحدا، ينقله الكمبيوتر إلى أي مكان يريده في اللحظة ذاتها»، وتستمر بيسان الساخطة التي لا تأخذ ما يجرى حولها بجدية في محاولتها لتغيير الواقع بالراب وبغيره، فيما تمنح الوردة التي تتلقاها نشيد على هاتفها النقال سببا للحيرة والبهجة في آن، وتتمسك بقرارها لتغيير العالم لمكان أفضل لنساء وطنها، هكذا تترك الرواية الباب مفتوحا أمام اليوم التالي لأحداثها، متمسكه بيقين بأنه حتى لو حاصر المحتل المكان، فإن الزمن لابد له أن يفلت من قبضته.
استعمار المكان والزمن: رواية «الخيمة البيضاء» لليانة بدر

Leave a comment