وسط احتدام النقاش حول المقاربة الانعزالية التي تطبع السياسة الخارجية في عهد أوباما، ربما ننسى أنّ النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية كان يتحدد في معظمه بطبيعة الالتزام الأميركي، كانت حالة الازدهار والسلام النادرة تاريخياً بعد حقبة الحرب وليدة حذر الولايات المتحدة وتضحياتها الماضية.
خلال الـ150 سنة الأخيرة، كانت ألمانيا محور ثلاث حروب أوروبية، ففازت بواحدة وخسرت أخرى ودمرت معظم أوروبا ونفسها في الحرب الثالثة، لكن تتمتع ألمانيا المعاصرة بأكبر اقتصاد في أوروبا ورابع أكبر اقتصاد في العالم، إنها دولة رائدة عالمياً في مجال التكنولوجيا المتطورة والصناعات الحرفية. طوال سبعين سنة، لم تحول ألمانيا هذا التفوق الاقتصادي إلى قوة عسكرية، حتى بعد توحيد البلد للمرة الثانية تاريخياً في عام 1989، مما يعكس تراجعاً كبيراً في مستوى العدائية، ولا مجال للشك بوضع المراوحة الاستراتيجي في أوروبا بعد حقبة الحرب (حيث تُعتبر بريطانيا وفرنسا واقتصادهما الأصغر والأضعف نسبياً القوتين النوويتين الوحيدتين في القارة).
ينجم هذا الواقع الغريب عموماً عن تصميم قوات حلف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة على حماية الجزء الشرقي من أوروبا من الأعداء المحتملين، فضلاً عن طمأنة ألمانيا إلى أنها لا تحتاج إلى إعادة التسلح كي تتمتع بنفوذ أوروبي، ودعم الاحتكار النووي الأوروبي ضمناً لبريطانيا وفرنسا. لطالما دعم الأميركيون نشوء أمم متحدة تكون مستوحاة من الولايات المتحدة، لكن بقي ولاؤهم الأول متعلقاً دوماً بضمان صمود الدول الديمقراطية الليبرالية في أوروبا واستمرار الدعم الأميركي الثابت، وأيّ ضعف في هذا الدعم قد يعيد أوروبا إلى القرن العشرين المضطرب.
تسود مفارقة مماثلة في آسيا، فباكستان وكوريا الشمالية هما من أضعف الاقتصادات وأقل الأنظمة السياسية استقراراً في المنطقة، ومع ذلك، يتمتع البلدان بقدرات نووية رغم الجهود الأميركية لمنع الانتشار النووي، لكن بجميع المقاييس المنطقية، يُفترض أن تصبح الدول الأغنى والأكثر تطوراً مثل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وأستراليا وربما الفلبين نووية، نظراً إلى خبرتها ومواقعها الخطيرة ووجود ثلاث دول فخورة بنفسها وعدائية أحياناً (الصين، الهند، روسيا) في وسطها، لكن لم يصبح أي منها نووياً بفضل الضمانات الأمنية الأميركية.
لماذا إذاً سعت إدارة أوباما إلى التفاوض حول اتفاقيات تخفيض الأسلحة النووية مع الروس حصراً؟ لا تضطلع روسيا بأي مسؤوليات كتلك التي يتولاها أتباع وعملاء الأميركيين الذين قد يفكرون باكتساب إمكانات نووية في آسيا وأوروبا، لكنهم يمتنعون عن ذلك حصراً بسبب الضمانات الأميركية على مستوى أمنهم الاستراتيجي.
تعتبر الدول الآسيوية الناجحة اقتصادياً لكن غير النووية أن جزءاً من قوة الردع الأميركية هو عامل حاسم لصمودها، وأي تقاعس في طمأنة شركائنا في منطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى أن قوتنا النووية تضمن صمودهم سيؤدي إلى زيادة كبيرة في العائلة النووية العالمية.
بالإضافة إلى حماية أوروبا ومنطقة المحيط الهادئ في حقبة ما بعد الحرب، لطالما انحازت الولايات المتحدة تقليدياً إلى الشعوب المضطهدة والضعيفة تاريخياً، وهي شعوب ما كانت لتستفيد من صداقة قوية مماثلة وفق حسابات الواقعية السياسية، فطوال نصف قرن ساهمت الضمانات الأمنية الأميركية لإسرائيل (بلد يشمل نحو 7 ملايين نسمة، من دون احتياطيات نفط حتى الفترة الأخيرة، وهو محاط بمجموعة من الدول العدوة والغنية بالنفط) في صمود الدولة اليهودية.
وسط الامتعاض الراهن بشأن حرب العراق، نحن ننسى أن إحدى المنافع التي تحققت هي نشوء كردستان شبه المستقلة والدستورية إلى حد كبير، فهي تشمل نحو 7 ملايين نسمة ويعكس تاريخها المأساوي الحديث مظاهر التطهير العرقي والقتل بالغاز وعمليات الذبح، وتحررها وحده في مرحلة سابقة بفضل الدعم الأميركي الراهن يضمن صمود هذه المحافظة الصغيرة وغير الساحلية.
تتّكل مجموعة من الدول الصغيرة والمعتدلة على الصداقة الأميركية في الحالات الطارئة، بدءاً من الأردن والكويت وصولاً إلى تشيلي وكولومبيا، مع أنها غير متحالفة رسمياً مع الولايات المتحدة، وأي تراجع أميركي سيعرّض هذه الدول الهشة للخطر، فلا منطق في سياسة إدارة أوباما التي تقضي بانتزاع التنازلات من الإسرائيليين، وسحب جميع القوات العسكرية من العراق غير المستقر بعد الحرب، والتقرب من تركيا الإسلامية التي تزداد استبداداً.
دعّمت الولايات المتحدة المقاومة ضد قوى إقليمية استبدادية وغير ليبرالية كانت قد تحدّت في مرحلة معينة بروتوكولات النظام السائد في حقبة ما بعد الحرب، وسمح ذلك النهج للدول الأكثر ضعفاً (مثل بولندا أو دول البلطيق) بالخروج من محور روسيا بعد عهد السوفيات، كما ساعد بعض الدول في منطقة المحيط الهادئ، مثل أستراليا أو نيوزيلندا أو الفلبين، على تجنب الرضوخ للصين.
هذا العالم الغريب الذي نشأ بعد حقبة الحرب مهّد لأعظم ازدهار ممكن وسط غياب عام لصراع عالمي كارثي أو حرب قارية منذ فجر الحضارة، وللمرة الأولى منذ نشوء نموذج المدن المستقلة اليونانية تمكنت معظم الدول من الازدهار وضمنت عدم انتهاك حدودها وتحرر شعوبها من أي اعتداءات. يرتكز نظام الاتصالات الدولية والسفر والتجارة على الافتراض القائل إن القراصنة لا يستطيعون مصادرة سفن الشحن، والإرهابيين لا يستطيعون خطف الطائرات، والدول الفاسدة لا تستطيع إطلاق القنابل الذرية، من دون وجود تحالف تقوده الولايات المتحدة لمنعهم من تهديد النظام الدولي.
كي تتابع الولايات المتحدة أداء هذا الدور الاستثنائي للحفاظ على نظام ما بعد الحرب في أوقات الضعف الاقتصادي والإجهاد الروحي، يجب أن تعبّر إدارة أوباما أمام الشعب الأميركي صراحةً عما حققته الولايات المتحدة، وتعلن طريقة نشوء نظام ما بعد الحرب، وتحدد المنافع التي تبرر تلك التضحيات الكبرى على المستويين البشري والمادي، لكنها لم توفر للأسف أي دفاع منهجي عن النظام العالمي الذي ورثته.
ورغم الكلام المتكرر عن التعاون مع الأمم المتحدة تجاهلت إدارة أوباما هذه المنظمة في سورية، وتجاوزت صلاحيات الحظر الجوي والقرارات بشأن المساعدات الإنسانية في ليبيا، وضلّلتها حين اعتبرت أمام الجمعية العامة أنّ صانع فيديو هو الذي حرّض على العنف ضد المنشآت الأميركية في بنغازي. على صعيد آخر، لطالما اعتبر فريق السياسة الخارجية الذي يعمل مع أوباما أن الإدارة السابقة كانت أحادية الجانب، لكنه نسي بذلك أن الأمم المتحدة أصدرت قرارات تسمح بالرد في أفغانستان وأن تلك الإدارة بذلت قصارى جهدها لانتزاع قرارات مماثلة لغزو العراق قبل أن تحشد مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحلفاء.
في عهد أوباما، لم تهتم سياسة إعادة ضبط العلاقات مع روسيا بأصدقائنا في أوروبا الشرقية، علماً أنهم كانوا يتوقون إلى التعاون مع الولايات المتحدة في مجال الدفاع الصاروخي والتكامل داخل الغرب، كما تجاهلت الإدارة واقع أنّ تلك السياسة رفعت العقوبات المفروضة على فلاديمير بوتين بعد غزو جورجيا في عام 2008. في غضون ذلك، تشعر الصين بالغضب والارتباك لأن الولايات المتحدة بدأت تحذرها فجأةً من إساءة التصرف في منطقة المحيط الهادئ، بعد أن أغفلت عن سلوكها طوال خمس سنوات، حين كانت تضايق معظم الدول المجاورة لها.
بعد جمع تحالف يهدف إلى تعزيز العقوبات ضد إيران عادت الولايات المتحدة وخففتها لبدء مفاوضات جديدة مع النظام الديني، من دون التشاور مسبقاً مع حلفائنا، وطاردت إدارة أوباما عناصر “القاعدة” عبر عمليات بطائرات بلا طيار، لكن انتشر هؤلاء الإرهابيون في أنحاء الشرق الأوسط غداة الانسحاب الأميركي وتطبيق مقاربة مضلِّلة ومبنية على المجاملات للتواصل مع الإسلام المتطرف. لا أحد في أميركا اللاتينية يعلم إلى أي درجة تعارض الولايات المتحدة الزحف المريب للحكومات الماركسية الاستبدادية، ولا أحد في الشرق الأوسط يعلم طبيعة الموقف الأميركي المتبدل من الانتشار النووي الإيراني، ولا أحد يعلم ما إذا كانت الولايات المتحدة تبعد نفسها عن إسرائيل تزامناً مع التقرب من أعدائها، وتعتبر إدارة أوباما أن التغير المناخي يطرح أكبر تهديد عالمي، ويشكل هذا الهدف الجديد نبأً ساراً بالنسبة إلى الدول العدائية التي كانت تخشى أن تتعرض للمحاسبة بسبب سلوكها المتهور.
لم يقدّر الأميركيون بالكامل قيمة النظام العالمي المكلف الذي أنشأته الولايات المتحدة خلال سبعين سنة الماضية في حقبة ما بعد الحرب، ربما سيبدؤون بتقديره حين يلحظون أنه بدأ يتلاشى.
عن الجريدة الكويتية