يتعرض نمط التمدين العربي في أغلب مدنه العريقة إلى ضغوط ثقافية تنال منه وتكاد تزهق روحه خصوصاً في بغداد ودمشق والقاهرة. فبغداد، مثلاً، لم تكن مدينة أثرية عريقة مثل بابل، بل نشأت في مطلع العصر العباسي، ولكنها سرعان ما استحالت عاصمة لدولة امبراطورية على قاعدة ثقافة كبرى بلغت نضجها المعرفي وتسامحها الإنسانى في عهد المأمون الذى امتد حكمه لعقدين عشرين بين 198، 218 هـ، بلغت المدينة خلالهما ذروة التفتح الثقافي فازدهر مذهب الإعتزال وأنشئت دار الحكمة «جامعة المأمون» كأول مؤسسة علمية للترجمة ضمن حركة كبرى عملت أول ما عملت على التراث الفلسفى اليونانى وبخاصة الأرسطي الذى مثل مصدراً لإلهام الكثير من الفلاسفة المسلمين وبخاصة ابن رشد والفارابي، وهي الحركة التي اعتبرها ديمتري غوتاس، أستاذ الأدب العربي في جامعة «ييل» الاميركية، إنجازاً مذهلاً وظاهرة اجتماعية فريدة وشاملة، كانت تساندها نخبة المجتمع العباسي بكامله: الخلفاء والأمراء وموظفو الدولة والزعماء العسكريون والتجار وأصحاب المصارف والعلماء، وتم دعمها بتخصيص مبالغ مالية ضخمة عامة وخاصة، وكذلك تمت متابعتها وفق منهجية بحث صارمة وضبط فيلولوجي دقيق على أساس برنامج مسنود امتد عبر أجيال، كان رعاته عرباً وغير عرب ومسلمين وغير مسلمين، سنّة وشيعة وقواداً عسكريين ومدنيين وتجاراً وملاك أراضٍ. وهو أمر عكس موقفاً اجتماعياً وجواً ثقافياً عاماً كان متفتحاً وعابراً لجميع الخطوط الدينية والمذهبية والإثنية والقبلية واللغوية.
كان ذلك فى حقبة تاريخية سابقة على الحداثة وعلى الدولة القومية، أما اليوم، في عصر الحداثة، بل وما بعد الموجات الديموقراطية الثلاث الكبرى، فنجد عودة لهيمنة النزعات المذهبية والطائفية والقبلية على تلك المدينة العربية التى طالما مثلت سياقاً مجتمعياً للتعايش وإطاراً تاريخياً للتمدين العربي. كان ذلك بفعل فشل النظام البعثي إبان حقبة التحرر القومي في إنجاز نمط تمدين حديث يتجاوز بشكل نهائي نمط التمدين التقليدي، وعجزه عن ممارسة عملية صهر اجتماعي حقيقية تتجاوز التفتت العرقي والمذهبي.
غير أن النظام البعثي رحل، ورئيسه المستبد صدام حسين سقط، وبدلاً من أن يؤدى رحيل النظام وسقوط الرئيس إلى مزيد من التحرر الثقافي والإنفتاح السياسي، كانت المفارقة التي تكاد تشل العقل، تتمثل في انطلاق تلك الموجات العنفية وتلك النزاعات المذهبية، التي طالما عصفت بتراث المدينة الثقافي خصوصاً أثارها القديمة ومكتباتها العامة ومساجدها العريقة وغير ذلك مما يشكل هويتها الثقافية. بل أن بناء نظام سياسي جديد لم يوقف ذلك الإنحدار السياسي إلى بئر الطائفية ومستنقع المذهبية إلى الدرجة التي يهدد معها أواصر الإلتحام بين عناصر المدينة كما يدمر نمط تمدينها العريق.
وفي دمشق، التي لا تزال تعصف بها الأنواء، وتتقاذفها المقادير في حرب أهلية كاملة، فحدث ولا حرج، حيث يجتاز العنف حدود العقل والمعقول، وتتناثر الدماء والأشلاء والأجساد مع مطلع كل شمس ومغرب كل يوم. وحيث تمتد رقعة الخراب إلى كل مكان تقريباً ليس في قلب العاصمة التاريخية فقط بل وأيضاً في جوارها الممتد مثل قوس يدور حولها يسمى بـ (ريف دمشق). لقد فتكت أسلحة الدمار بالكثير من أحيائها التي صارت جميعها في قلب العاصفة ومرمى النيران حتى قصر الرئيس نفسه، ذلك الرئيس الذى لم يعد يكترث بدمار المدينة ولا موت أهلها لأنه لم يعد يعنيه من سورية كلها سوى أن يبقى على أنفاسها، نائحاً على تلالها وكأنه شاعر رثاء عربي قديم.
ولو توقفنا أخيراً عند القاهرة، لوجدنا مفاجآت صارخة، وتحولات صادمة لمدينة يمكن اعتبارها، بأريحية كبيرة، عاصمة التاريخ، إذ ورثت أقدم عواصم مصر وحواضر الزمن منذ منف وهليوبوليس، وصولاً إلى الفسطاط. هذه المدينة تعاني الآن من عملية ترييف شديدة كانت قد أخذت في التنامي تدريجياً منذ ثلث قرن تقريباً، ولكنها تسارعت مؤخراً في موازاة ما تشهده مصر من مظاهر همجية سياسية وبداوة ثقافية باتت تتحدي الأبصار. فثقافة التوك توك تكاد تنتزع ثقافة الأوبرا، وفوضى وكالة البلح تكاد تطغى على قلب المدينة التي كانت زاهرة، وهكذا يبدو نمط التمدين المصري أخذاً في التهميش وربما التهشيم.
لقد مثلت القاهرة منذ نشأتها الفاطمية محوراً للمدنية المصرية، فاحتضنت الأزهر جامعاً ثم جامعة في أحيائها القديمة، كما احتضنت أحياءها الجديدة (القاهرة الإسماعيلية)، التي بنيت على نسق أوروبي بلمسة إسلامية، دار الأوبرا القديمة، أعرق أوبرا في الشرق الحضاري، قبل أن يحتضن امتدادها الطبيعي في منف القديمة جامعة القاهرة أعرق جامعات المشرق العربي، ثم توالت المنشآت الحديثة التي واكبت عصر النهضة المصري الممتد حتى منتصف القرن العشرين.
ومثل كل العواصم الكبرى، كانت القاهرة حاضنة للمصنع والنقابة، للبرلمان وقصر الحكم، للأندية الرياضية والجمعيات الأهلية، للسينمات والمسارح والصحف، كما كانت فيها المتنزهات العامة والحدائق الجميلة، والكثير من الشوارع النظيفة خصوصاً في ضواحيها الممتدة حول قلبها المكتنز.
وقد ظلت القاهرة مدينة راقية، تمور بحركة ثقافية رائدة على كل الأصعدة جذبت نحوها عقول العرب، وعيون العالم إلى نهاية سبعينات القرن الماضي، حتى استحقت وصف «هوليود الشرق»، تعبيراً ليس فقط عن حال سينما رائدة، ربما كانت مع السينما الهندية، أبرز النماذج الفنية خارج العالم الغربي، بل وأيضاً عن واقع مدينة حديثة بشوارعها وأحيائها وضواحيها التي روجت لها هذه السينما نفسها، كما زينتها أعمال كبار فنانيها المحدثين، ولفتها مواقع أثرية تعكس تاريخها، وتمنحها ذائقة خاصة، وسحراً أخاذاً.
تدريجياً، وبفعل حركة النزوح الكبيرة والمستمرة من الريف خصوصاً من صعيد مصر، وبفعل سياسات الحكم الجديد التي انتهجت انفتاحاً عشوائياً وسمحت ببناء مصانع ومراكز تجارية من دون تنظيم، أو مراعاة لروح المكان وتاريخه، أو لأي قيمة جمالية، وكذلك بفعل فساد سمح بارتفاعات خرافية ومواصفات بناء هلامية لم تراع حدود الطاقة الاستيعابية للمدينة، أو طابعها المعماري، أخذت القاهرة تفقد ملامحها الأصلية، وتئن تحت ضغط الأحزمة العشوائية المتزايدة حولها، مثل امرأة جميلة ضاعت ملامح وجهها الدقيقة بفعل كتل الشحوم التي زحفت عليها.
ومع بداية الألفية الحالية تبدت العاصمة الكبيرة مثل جهنم صغيرة، تتجاوز صعوبات الحياة فيها القدرة على الاحتمال. وبدلاً من الاجتهاد في إصلاحها، قام النظام الحاكم بهجرتها إلى مواضع طرفية ليحكم منها، فصارت الإسكندرية صيفاً، وشرم الشيخ شتاء هي العواصم الحقيقية لمصر. وقد تبعته فى ذلك النخبة السياسية المصرية التي أخذت معها رجال المال والأعمال ليسكنوا الساحل الشمالي. وبدلاً من عصر القاهرة بدأ عصر مارينا الساحرة، حتى بدا في لحظة أن عالم مارينا هو جنة القادرين فيما القاهرة نار المستضعفين.
وبدلاً من أن تكون الثورة بداية لاستعادة المدينة من براثن ثقافة الفوضى، حدث العكس تماماً، فالانحدار الذي كان يتم قبلها تدريجياً وعبر (متوالية حسابية)، أخذ بعدها شكلاً حاداً أو (متوالية هندسية)، حيث انفجرت الأحزمة العشوائية لتطيح بالقلب المتمدين الذي وهنت عضلاته، ولتشعل نيران البلطجة والسوقية في ما بقي له من قيمة جمالية وأخلاقية، والمحصلة أن حياً نظيفاً لم يعد موجوداً، وشارعاً يمكن السير فيه لم يعد متخيلاً، ومشهداً جمالياً لم يعد متوقعاً.
وسرعان ما انتقلت سوقية المكان إلى سوقية الروح، حتى صارت القاهرة بعد أعوام ثلاث تقريباً من الثورة، مكاناً موبوءاً بالقسوة والتخلف، ويكفي المرء كي ينفطر قلبه وتدمع عيناه أن يسير في شوارع وسط المدينة، قلبها النابض، ويرى كيف طغت عليها العشوائية، من دون اهتمام أحد أو تدخل من دولة تبدو في حال سبات عميق، وربما في تواطؤ مقيت.
الحياة اللندنية .