لم يبتلي الفلسطينيون فقط بالمشروع الصهيوني الاستيطاني الذي هو حصيلة التقاء مصالح بين الحركة الصهيونية والحركة الاستعمارية بداية القرن العشرين ، بل ابتلوا أيضا بأبعاد هوياتية للقضية الفلسطينية ميزت قضيتهم دون غيرها من القضايا العربية . البعد (القومي) والبعد (الإسلامي) للقضية الفلسطينية بعناوينهما السياسية الرسمية ، بدلا من أن يكونا رافدا وداعما للشعب الفلسطيني في نضاله للحفاظ على وجوده الوطني بداية ، ثم لاستعادة أراضيه المحتلة لاحقا ، بدلا من ذلك فإن البعض من مكوناتهما كانا وما زالا يشكلان عبئا على الشعب الفلسطيني ، بل ويتآمران على القضية الوطنية الفلسطينية .
بالتأكيد لا نقصد بالانتماء القومي او الانتماء الإسلامي ما يربط الشعب الفلسطيني بشعوب الامتين العربية والإسلامية من روابط ووشائج مستمدة من التاريخ واللغة والدين ، ولا نقلل من اهمية عطاء الشعوب العربية من اجل فلسطين ، ولا نقلل من دور مناضلين ومثقفين وكُتاب عرب ومسلمين ناضلوا وما زالوا من اجل فلسطين وضد إسرائيل ومن يتحالف معها ، ولهؤلاء من الشعب الفلسطيني ومن أهل غزة الصامدة كل تقدير واحترام ، بل نقصد توظيف بعض الأنظمة والحركات السياسية البعدين أو الايديولوجيتين القومية العربية والإسلام ، للمساومة والمتاجرة بالقضية الفلسطينية .
1- بالنسبة للبعد (القومي العربي)
صحيح ، إن الحركة القومية العربية الرسمية والحزبية تراجعت خلال العقود الثلاثة الأخيرة سواء على مستوى الأنظمة أو الحركات القومية ، ولم نَعُد نسمع أنظمة وحركات ترفع شعارات الخمسينيات والستينيات والسبعينيات ، حول تحرير فلسطين والقضاء على إسرائيل والوحدة العربية الخ ، ولكن القضية الفلسطينية تشهد اليوم ردة خطيرة وخصوصا من بعض أنظمة ما بعد أكذوبة الربيع العربي. هذه الانظمة المستحدثة ، ليس فقط تخلت عن مسؤوليتها تجاه الشعب الفلسطيني ، وهو امر يمكن أن نجد لهم فيه عذرا بسبب مشاكلهم وأوضاعهم الداخلية لو أنهم صمتوا كما تفعل كثير من الانظمة العربية ، ولكن المصيبة في نخب سياسية وإعلامية لبعض هذه الانظمة ، حيث تبرر مواقفها المتخاذلة تجاه المجازر الصهيونية في غزة بمزاعم وأكاذيب مثل : إن العرب خاضوا أربعة حروب من اجل الفلسطينيين ، وأن العرب قدموا مئات الآلاف من الجنود والمدنيين دفاعا عن الشعب الفلسطيني الخ !.
إن كل قارئ ومعايش لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي يعرف جيدا أن الفلسطينيين دفعوا وما زالوا يدفعون ثمن حروب وهزائم جيوش عربية خاضت حروبا للدفاع عن دولهم وشعوبهم وليس دفاعا عن الشعب الفلسطيني ، وأن عدد قتلى الفلسطينيين خلال الصراع العربي الإسرائيلي أضعاف عدد القتلى من الجنود العرب . لو تُرك الفلسطينيون ليديروا المعركة لوحدهم مع اليهود والبريطانيين قبل 1948 لكانوا اليوم يعيشون على أراضيهم في دولتهم المستقلة حسب قرار التقسيم على أقل تقدير ، بدلا من الاحتلال وحياة التشرد والذل والإهانة في بلاد الغربة التي يعيشونها اليوم ..
في حرب 1948 أرسلت جامعة الدول العربية سبعة جيوش بعدد دول الجامعة العربية آنذاك ، وكلها أنظمة ملكية خاضعة للاستعمار البريطاني والفرنسي ، حتى الجيوش العربية تم وضعها تحت إمرة غلوب باشا وهو ضابط بريطاني يخدم في الجيش ألأردني . كان مجموع هذه الجيوش 22 ألف جندي فقط وبأسلحة فاسدة وبدون تعليمات أو استراتيجية واضحة -مذكرات جمال عبد الناصر عن حرب فلسطين تكشف ذلك – ، بل كان لكل جيش هدفه الخاص الذي لا علاقة له بتحرير فلسطين ، بينما كان عدد أفراد العصابات الصهيونية المقاتلة 36 ألف مقاتل ، وانهزمت هذه الجيوش وقامت دولة إسرائيل على 78% من مساحة فلسطين ، وتم تشريد الشعب الفلسطيني ، وما تبقى من فلسطين وُضِع تحت سيطرة الجيشين الأردني والمصري .
بعدها كانت حرب السويس 1956 أو العدوان الثلاثي ، وهي حرب لا علاقة للفلسطينيين بها ، بل كانت عدوانا بريطانيا فرنسيا إسرائيليا بعد قرار جمال عبد الناصر تأميم قناة السويس . نفس الأمر بالنسبة لعدوان 1967 حيث قامت إسرائيل بالعدوان على مصر وسوريا والأردن ، وهزمت إسرائيل جيوش هذه الدول خلال ستة أيام ، ودفع الفلسطينيون ثمن حرب لم يشاركوا بها وليسوا سببا فيها ، حيث احتلت إسرائيل بقية فلسطين – الضفة وغزة . في حرب 1973 حاولت مصر وسوريا استعادة أراضيهما المحتلة ، وليس تحرير فلسطين ، ولم تتمكنان من ذلك .
نؤمن ونحترم هويتنا العربية ونحترم الشعب العربي ونقدر عواطفه معنا ومساعداته لنا ، ولكننا أيضا نحترم عقولنا وتاريخنا وهويتنا الوطنية ، ولا نسمح ولا يجوز لأي كان ان يُهين الشعب الفلسطيني أو يشكك بتاريخه ، ومن يفعل ذلك فهو والعدو الصهيوني سواء . المشكلة تكمن في الأنظمة ونخبتها التي باتت كما يقول المثل : ( لا خير منهم ولا كفاية شرهم ) . ويكفي الفلسطينيين فخرا ، أنه عندما كان العار والخجل يجلل العالم العربي بعد هزيمة 67 ، انطلقت الثورة الفلسطينية والعمل الفدائي الذي قال عنه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر : (إنه أنبل ظاهرة في العالم العربي) ، بإمكانياته المتواضعة ليُعيد للعرب بعضا من كرامتهم .
2- بالنسبة للبعد (الإسلامي)
الإسلام ديننا وجزء أصيل من هويتنا منذ حوالي 1500 سنة ، ولكن المشكلة عندما يتم أدلجة الإسلام وتوظيفه لخدمة سياسات دول وجماعات تتصارع من اجل السلطة . تم الانقلاب على روح الإسلام وأهدافه السامية كدين يوحد الامة ، ليتحول لأيديولوجيا تفتت الامة الإسلامية وتثير فيها الفتنة والحروب الاهلية . وللأسف فإن جماعات وأنظمة توظف البعد الديني الخاص لفلسطين المرتبط بالقدس ، لخدمة مصالح وأهداف خاصة بها وليس من اجل تحرير فلسطين . باسم فلسطين والقدس تشكلت جيوش وكتائب وجماعات ، إلا أن هذه ذهبت لتقاتل في كل مكان في العالم إلا في فلسطين والقدس ، فجيش القدس مثلا الذي شكلته إيران حارب ويحارب في العراق وسوريا وربما لبنان ولم يُطلق طلقة واحدة أو يستشهد منه عنصر واحد في فلسطين او من أجل فلسطين ، وأنصار بيت المقدس أصابهم حَوَلٌ جغرافي ، فبدلا من يوجهوا اسلحتهم جنوبا نحو فلسطين والقدس ، يوجهونها شمالا نحو أبناء جلدتهم . ليس هذا فحسب بل إن هذه الانظمة والجماعات باتت تتدخل في الشأن الفلسطيني الداخلي مُفتتة للوحدة الوطنية ومُنتِجة للانقسام والفتنة .
المجازر التي يتعرض لها اهلنا اليوم في قطاع غزة على يد العدو الصهيوني ، والصمود البطولي للشعب والمقاومة واللذان حركا وجدان احرار العالم ، تكشف وتعري كل دعاة الشعارات القومية والإسلامية . إن من لم تحركه وتثير نخوته العربية والإسلامية مناظر اجساد الأطفال والشيوخ والنساء المحترقة والمقطعة في مدارس ومستشفيات وأحياء قطاع غزة ، لا يجوز له التحدث باسم العروبة والإسلام .
لقد باتت الابعاد القومية والإسلامية للقضية الفلسطينية كما تعبر عنها الأنظمة والحركات السياسية الحالية ، عبئا على الفلسطينيين وستارا توظفه انظمة وجماعات لخدمة مصالحها الخاصة ، بل اصبحت هويات قاتلة بالنسبة للفلسطينيين ، وكم نتمنى أن تستفيد الاحزاب الفلسطينية اليوم ذات التوجهات الدينية من التجربة التاريخية ولا يورطوا القضية الفلسطينية بمشاريع وأجندة عربية وإقليمية توظف الايديولوجية الدينية . مطلوب اليوم موقف وطني فلسطيني موحد يحافظ ويحمي الهوية الوطنية ويبلور رؤية وطنية جامعة. وطنية فلسطينية غير متصادمة ومتعادية مع البعدين القومي العربي والإسلامي ، ولكن متفاعلة معهما على المستوى الشعبي وبما يعزز المشروع الوطني المتصادم مع الاحتلال .