تونس/خاص من رشيد خشانة – مع عودة “أنصار السنة” أكثر الجماعات المسلحة تشددا إلى مدينة بنغازي، بعدما طُردت منها في أعقاب اغتيال السفير الأميركي لدى ليبيا في الخريف الماضي، تزايدت المخاوف من استمرار نفوذ الخارجين عن القانون على نحو يكرس عجز الدولة الفتية عن ضبطهم. وعلى رغم أن الحكومة الحالية التي يقودها المعارض السابق علي زيدان، هي أول حكومة شرعية عرفتها ليبيا منذ ستة عقود، فإنها ما زالت تجابه صعوبات كبيرة للسيطرة على الأمن، ليس فقط في المناطق النائية وإنما أيضا في المدن الكبرى. وكانت الحكومة أصدرت قرارا منذ ستة أشهر بحل الميليشيات ودمجها في القوات الأمنية والجيش النظامي، إلا أن الاستجابة ظلت جزئية على الرغم من الحوافز والمُغريات التي عُرضت على المسلحين.
مبادرة فرنسيةبهذا المعنى يمكن اعتبار عقدة الأمن العقبة الرئيسية أمام نجاح مسار الانتقال الديموقراطي، وهو ما حمل الحكومة الليبية على التجاوب مع مبادرة فرنسا بتنظيم مؤتمر في باريس اخيراً بمشاركة وفود من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول عربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لبحث سبل تحقيق الاستقرار وإعادة الأمن إلى ليبيا. ويمكن القول إن هذا المؤتمر كان علامة بارزة على قلق الليبيين من دور الملف الأمني في تعطيل العملية الانتقالية. ومن هذه الزاوية ندرك دلالات الدعوة التي توجه بها وزير الخارجية الليبي محمد عبد العزيز من منبر مؤتمر باريس إلى الحلفاء الغربيين والعرب لمد يد العون للسلطات الشرعية من أجل إحكام الرقابة على حدود البلاد الشاسعة، ومنع المتمردين المنسحبين من مالي من اللجوء إلى ليبيا، ما قد يؤدي إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في البلد. لا بل هو أكد بوضوح أن لا مفر من إغلاق الحدود لمنع المسلحين من العودة إلى ليبيا، منسجما في ذلك مع قرار الحكومة التي أقفلت الحدود البرية لمدة أربعة أيام.
هذا النداء لاقى تجاوبا لدى حلفاء ليبيا الذين ساعدوا الثوار ضد العقيد المقتول معمر القذافي، إذ أكد عبد العزيز أنه حصل على تعهدات من فرنسا وبريطانيا وتركيا، وبلدان أخرى بتقديم دعم فني ومعدات. غير أنه طالب ببذل المزيد من الجهود لتأمين حدود بلده البالغ طولها أربعة آلاف كيلومتر، على حد قوله. وشرح عبد العزيز في الاجتماع المغلق أن الحكومة الانتقالية لا تستطيع إرسال عناصر مدربة من الجيش اليافع، من دون تأمين تكنولوجيا متقدمة لها للقيام بعمليات الاستطلاع، أو من دون حراسة مناسبة للحدود، لأن تأمين تلك العناصر لن يكون ممكناً، على حد تعبيره. ويشير خبراء إلى أن تقدير الكلفة هو فعلا أمر صعب ومعقد، إذ سبق للسعودية أن وضعت خطة في 2009 لإقامة سياج من الأسلاك الشائكة على حدودها مع العراق البالغ طولها 900 كيلومتر، ووصلت الكلفة إلى مليار دولار.
بالمقابل أبدى الشركاء الغربيون والعرب استعدادهم للتجاوب مع المسعى الليبي انطلاقا من قناعتهم بتداخل الأمن الاقليمي بعضه مع بعض، وخاصة في ضوء الأحداث الجارية في مالي، إذ أكد وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أن مسألة الأمن تخص كل البلدان المجاورة، مضيفاً: “بمساعدة ليبيا على تحقيق الأمن، فإننا نساعد على تحقيق أمننا”، وإن كانت فرنسا ليست دولة حدودية مع أي من بلدان المنطقة. وكانت الفكرة التي ترددت في كواليس مؤتمر باريس، لا بل حتى في جلساته الرسمية أيضا، مفادها أن تدفق مقاتلين ماليين من فصائل مختلفة تم تسليحها أصلا في ليبيا، شكل أحد الأسباب التي أدت إلى أزمة مالي حيث سيطرت الجماعات المتمردة على ثلثي شمال البلاد العام الماضي، ما أثار مخاوف من أن يحولوا المنطقة إلى قاعدة تنطلق منها هجمات التنظيمات المتشددة القريبة من شبكة “القاعدة”.
وقال مسؤول رفيع المستوى حضر اجتماعات باريس لـ إن أهم ما تمخض عنه المؤتمر هو موافقة الدول الأوروبية على إرسال بعثة إلى ليبيا لإدارة الحدود بحلول يونيو المقبل. إلا أن العواصم الغربية يساورها قلق واضح من الأوضاع الأمنية داخل البلد ، إذ دعت رعاياها إلى مغادرة مدينة بنغازي في شرق ليبيا منذ 24 كانون الثاني (يناير) الماضي، بعد أن أشارت بريطانيا إلى تهديد وشيك للغربيين عقب الهجوم المسلح على مجمع الطاقة في مدينة عين أم الناس الجزائرية القريبة من ليبيا. وأثارت تلك الدعوة في حينها غضب الليبيين الذين يسعون الى استقطاب الاستثمارات الأجنبية، بغية إصلاح البنية التحتية المدمرة جراء الحرب، وخاصة إعادة بناء صناعة النفط بعد الثورة. وتُعتبر بنغازي وبعض مدن الشرق الليبي مثل درنة معاقل لجماعات متشددة بسطت سلطتها في تلك المناطق على حساب الدولة.
رسالة قويةوشكل مقتل السفير الأميركي لدى ليبيا كريستوفر ستيفنز في أيلول (سبتمبر) الماضي أثناء وجوده في بنغازي، وثلاثة من العاملين معه رسالة قوية على إفلات المنطقة من سيطرة الدولة. وتم على إثر الحادثة طرد ميليشيات “أنصار السنة” من المدينة وإغلاق مكاتبها بعد كل ما أثير عن مشاركتها في الاغتيال. وتجاوبا مع ردود الفعل القوية الداخلية والخارجية في أعقاب تلك الصدمة، قررت السلطات الليبية حل جميع الميليشيات والمجموعات المسلحة “غير المنضوية تحت سلطة الدولة”. كما حدد الجيش من جهته في ذلك الوقت مهلة مدتها ثمان وأربعون ساعة للميليشيات والمجموعات المسلحة لإخلاء المباني العامة وممتلكات أعضاء النظام السابق في العاصمة وجوارها.
لكن ردة الفعل التي بدت حازمة لم تحل دون استئناف مسلسل الاغتيالات في الفترة الأخيرة، والذي طال حسب إحصاءات غير رسمية، نحو خمس وثلاثين شخصية أمنية سابقة من عهد العقيد القذافي. كما انتشرت ظاهرة اختطاف مواطنين وتعذيبهم واتهمت أسرهم أعضاء ميليشيات بارتكاب تلك الجرائم لـ”تصفية حساباتهم” مع من يخالفهم الرأي. ولعل من أبرز تلك الحوادث اغتيال قائد الأمن الوطني في بنغازي فرج الدرسي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وقيام مجموعة مسلحة مجهولة في كانون الثاني (يناير) باختطاف المقدم عبد السلام المهدوي رئيس قسم البحث الجنائي في مديرية الأمن الوطني في بنغازي.