في سورية، ما يزال العمل يجري كالمعتاد. ورغم مشهد الدمار الكئيب الذي تتركه القوات الموالية خلف العقوبات التي فرضتها البلدان الغربية، ما تزال قلة من كبار رجال الأعمال الرواد الذين يعملون في مدار نفوذ السلطة تقوم بمراكمة الأرباح والمزايا، كما يقول الخبراء في النظام السوري. ويقوم هؤلاء الدارسون بإماطة اللثام عن جزء من هذا النظام الغامض والطُّفيلي الذي يسمح للرئيس بشار الأسد بالاحتفاظ بولاء أتباعه وبتمويل حربه ضد المعارضة.
تماماً مثلما شاركت أجزاء البلد التي تسيطر عليها الحكومة في انتخابات رئاسية غامضة، والتي أعطت الأسد ولايته الثالثة في المكتب الرئاسي، فإن النزيف الممنهج للبلد، واعتماد دمشق على حلفائها، وبشكل خاص إيران، لم تكن أبداً بهذه الحدة من قبل.
يقول صديق مقرب سابق من حاشية الأسد: “ليس هناك حتى ولا دولار واحد تقريباً يدخل إلى خزائن الدولة بصورة مشروعة”. ويضيف: “إن آبار النفط راهناً تخضع لسيطرة الثوار أو لسيطرة الأكراد. ولم يعد الناس يدفعون ضرائبهم ولا يسددون فواتيرهم عن الماء والكهرباء. وكل ما تبقى لدى النظام الآن ليدفع منه رواتب الموظفين المدنيين هو مخططاته الخاصة والمساعدات المباشرة التي يتلقاها من إيران والعراق”.
فيما يتعلق بمسألة المخططات، ما يزال السيد هو رامي مخلوف. وبوصفه من أقارب بشار الأسد، فإنه يسيطر على قطاعات ضخمة من الاقتصاد السوري، بما في ذلك شبكة الهواتف النقالة الرئيسية في البلاد، “سيريا تل”. ومع كل من أيمن جبر وعبد القادر صبرا، رجلي الأعمال من منطقة الساحل السوري، وسمير حسن، الموظف السابق في “نستله”، يستثمر مخلوف في استيراد إمدادات الغذاء -وبشكل خاص الحنطة والأرز والسكر والشاي. وظهر هذا السوق الجديد بعد موسم الحصاد السيئ في العام السابق، وبعد سيطرة الثوار على مناطق شاسعة من الريف السوري. فعلى عكس النفط، لا تخضع إمدادات الغذاء للحظر الأوروبي.
ثمة هبة إلهية أخرى تخلقت أيضاً بفعل الأزمة، هي استيراد النفط الذي كان قد أعطي للقطاع الخاص بعد أن خسرت الدولة قبضتها على مواقع الاستخراج في دير الزور والحسكة. وقد أصبح هذا السوق جذاباً منذ أن منحت إيران للنظام السوري خطاً ائتمانياً بقيمة 3.6 بليون دولار لشراء النفط الخام وغيره من المنتجات البترولية في العام الماضي. ويحصل الكاسبون المحظوظون على إمداداتهم من إيران والعراق، ومن مجموعات الثوار الذين سيطروا على الآبار أيضاً. وفي مستهل العام، قال مستشارون ماليون غربيون إن مبعوثي النظام اشتروا نفطاً من جبهة النصرة؛ المجموعة الجهادية المتواجدة في دير الزور في ذلك الوقت.
يقول بيتر هارلينغ من مجموعة الأزمات الدولية: “من وجهة نظر اقتصادية، خلط الصراع الأوراق. لقد أجبر عائلات ضخمة على الهجرة أو إقفال أعمالها، وسمح لجيل جديد من الأشخاص الوصوليين المحنكين بالصعود”. ومن الوسطاء في سوق الحنطة، هناك عائلة فوز من اللاذقية، والتي تعمل لصالح الجنرال ذي الهمة شاليش، أحد أبناء عمومة بشار الأسد، والذي يترأس الأمن الرئاسي والمستهدف من جانب العقوبات الغربية.
من أجل تجنب العقوبات الدولية والالتفاف عليها، يعمل أولئك الذين يستفيدون من الحرب تحت غطاء. ويدعي عضو في النخبة المالية في دمشق بأن “لدى رامي مخلوف مجموعة من المحامين الذين يعملون لصالحه، والذين يمضون وقتهم في خلق شركات وهمية”. وقد تعرفت على البعض من هذه السواتر الدخانية أجهزة البوليس السري التابع للخزينة الأميركية والمفوضية الأوروبية. وكان صندوق استثمارات في جزر كايمان وفي شركة “دريكس تكنولوجيز هولدينغ” القابضة في لوكسمبيرغ قد أضيفا في العام 2012 إلى القائمة السوداء للشركات والرواد المتهمين بتمويل نظام الأسد.
روابط خبيثة
لكن رامي، قريب الأسد، استطاع وفق رجل أعمال سوري مطلع جيداً، حماية معظم ثروته التي يوجد جزء منها في دبي. وتفتخر الإمارة الخليجية، حيث تعيش شقيقة الرئيس السوري بشرى الأسد، بأنها تلقت العديد من أصول النخبة في الشرق الأوسط منذ بداية الربيع العربي. ويشرح المصدر السوري بالقول: “منذ العام 2011، ما تزال دبي تلعب في منطقتنا الدور نفسه الذي لعبته سويسرا في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية”.
من خلال والده محمد الذي يعيش متنقلاً بين دمشق وموسكو، يتوافر مالك شركة “سيريا تل” على وصول للمرافق في روسيا. وهناك تجري طباعة العملة السورية، نظراً لأنه تم إجبار النمسا على التنازل عن عقد طباعتها بسبب ما قررته العقوبات الأوروبية في خريف العام 2011. وفي كانون الأول (ديسمبر) من ذلك العام، قام الكرملين، الحامي غير المتخاذل لدمشق، بتخويل البنك المركزي السوري بفتح حسابات مقومة بالروبل الروسي لدى البنوك الروسية، في مخطط استهدف الالتفاف على العقوبات الغربية التي تمنع السوريين من عقد صفقات تجارية بالدولار.
ولإمبراطورية مخلوف فروع أيضاً في رومانيا، حيث يشغل والد زوجة رامي، وليد عثمان، منصب السفير السوري لدى رومانيا. ويقول أيمن عبد النور، محرر أخبار موقع “أول فور سيريا” والمستشار السابق لبشار الأسد والذي يوجد راهناً في صف المعارضة: “إن نشاطات صهره في أوروبا، وعلى نحو خاص في فيينا وبوخارست، تولد الملايين من الدولارات النقدية التي يتم إرسالها إلى سورية”.
تضم عصابة الأوليغاركيين السوريين أيضاً ماهر الأسد، شقيق الرئيس، وخدمه محمد حمشو وسامر دبس وخليل قدور. ومن المتوقع أن يمنح الأول، الذي يمتلك سوق VOIP، “صوت على بروتوكول الإنترنت” المربح جداً إذناً من وزارة السياحة في البلد لتطوير مشروع جزيرة اصطناعية بالقرب من طرطوس.
في مقابل إسهام الدولة، يقوم هؤلاء الصناعيون بإعادة تحويل جزء من أرباحهم. ويدفع مخزون “سيريا تل” كما هو واضح أجور الموظفين المدنيين، وربما الشبيحة، الميليشيات المؤيدة للنظام. ووفق الاقتصادي جهاد اليازجي الذي وضع تقريراً عن اقتصاد الحرب السورية، فقد وضعت شركات الحافلات أسطولها تحت تصرف الجيش. وثمة إمارة أخرى على هذه المرونة، هو أنه لا أحد من رجال الأعمال الذين تظهر أسماؤهم في القائمة السوداء قد انضم إلى المعارضة تقريباً. وقد استطاع القليلون من الناس مسح أسمائهم من القائمة بعد أن أثاروا قضية تشابه أسماء أمام محاكم أميركية وأوروبية.
ولكن، دعونا نخطئ: بالنسبة للغالبية العظمى من رواد قطاع الأعمال السوريين، يشكل النزاع كارثة محققة. فقد قدر خبراء الأمم المتحدة أنه حتى مع نمو سنوي نسبته 5 %، فإن سورية سوف تحتاج إلى 30 عاماً قبل أن يستعيد إجمالي الناتج القومي السوري مستوياته لما قبل الحرب.
الغد الأردنية