كانت مفاجئة قدرة جماعة «الاخوان المسلمين» في مصر أن تحقق في أربعين يوماً، من تولي مرشحها الفائز بمنصب رئاسة الجمهورية في 30 حزيران (يونيو) 2012، ما احتاجه حزب العدالة والتنمية في تركيا من تسع سنوات (2002-2011) حتى يصل إلى هدف تحجيم المؤسسة العسكرية، التي حكمت مباشرة أو من وراء ستار منذ وفاة كمال أتاتورك في عام1938، وهي، عندما رأت سلطتها قد انتقلت للحكم المدني في عهد عدنان مندريس (1950-1960) قامت بانقلاب 27 أيار (مايو) 1960 وأعدمت مندريس، فيما لم يكن يشهد حكم المؤسسة العسكرية المصرية تقطعاً بدءاً منذ 1952.
نصب العسكر المصريون مع «الاعلان الدستوري المكمل» في 17 حزيران 2012 شباكاً تقييدية لسلطات رئيس الجمهورية، مع توقع فوز الدكتور محمد مرسي في الجولة الثانية للانتخابات، ولكنه استطاع، مع استغلاله لحادثة الهجوم على المركز الحدودي في سيناء، أن يرمي تلك الشباك بعيداً بعد أن ألغى في يوم 11 آب 2012 «الاعلان الدستوري المكمل» الذي أصدره المجلس العسكري، وتولى سلطة التشريع التي كانت للمجلس العسكري حتى انتخاب مجلس شعب جديد، وأحال المشير طنطاوي وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة وكذلك رئيس الأركان الفريق سامي عنان وقادة أفرع الجيش الى التقاعد، منهياً عملياً حكم العسكر المصريين منذ 1952، وفاتحاً صفحة جديدة مثل الصفحة التي بدأها الرئيس جمال عبدالناصر في 1954 إثر «حادثة المنصة» عندما وضع نهاية لمزاحمة (الاخوان) للعسكر على السلطة.
أعطى هذا صورة عن جماعة سياسية، عاشت 84 عاماً في المعارضة والسجون والمنافي والعمل السري، ولكنها على ما يبدو استعدت بما يكفي لكي تمارس السلطة في دولة يبلغ عمر جهازها آلاف السنين: كانت اختبارات القوة التي أطلقها الدكتور مرسي في الأيام الأولى، مثل إعادة مجلس الشعب المنحل بقرار قضائي ثم العودة عن القرار استجابة لقرار المحكمة الدستورية العليا، اختباراً لحرارة مياه الخصم أكثر منها تعبيراً عن نقص في الخبرة السلطوية. في أيلول (سبتمبر) تكررت تلك العملية لاختبار الخصم في قرار حاول فيه الرئيس المصري ابعاد النائب العام عن منصبه من طريق تعيينه سفيراً في الفاتيكان، ثم تراجع أمام ردود الفعل في بلد لم يستطع فيه الرؤساء العسكريون الثلاثة السابقون تجاوز حاجز السلطة القضائية، ولكنه في تشرين الثاني وبعد يوم واحد من مشاركة القاهرة لواشنطن في رعاية اتفاقية التهدئة في غزة بين «حماس» وتل أبيب، قام، ليس فقط بإحالة النائب العام للتقاعد، وإنما أعطى لرئيس الجمهورية الحق في تعيين النائب العام الجديد، عبر اعلان دستوري جديد هدف أيضاً إلى تحصين أعمال الجمعية التأسيسية للدستور أمام السلطة القضائية وبالذات المحكمة الدستورية العليا التي كانت تستعد لاصدار قرار متوقع في أوائل كانون الاول ببطلان تشكيل الجمعية الدستورية ومن «ثم أعمالها»، وهو ما نجح فيه الرئيس المصري، ليس فقط عبر ذلك الاعلان الدستوري الجديد، وإنما أيضاً عبر ضغط شارعي وصل إلى حدود محاصرة مبنى تلك المحكمة ولكن من دون أن يتبنى الاسلاميون رسمياً ذلك ومن دون أن يستنكروه، وهو ما أعطى حدوداً واسعة لبراغماتيتهم.
كان الاعلان الدستوري الجديد مفاجئاً، وهو يتناقض مع وعود الرئيس المصري قبل أيام في اجتماعه مع بعض قادة المعارضة حول أن لا تكون أعمال الجمعية التأسيسية للدستور إلا بالتوافق، موحياً بأن العملية الخاصة بتشكيل الدستور ستطول، قبل أن يفاجأوا بتسريع أعمال الجمعية حتى الوصول خلال أيام إلى مشروع للدستور قام الرئيس المصري بإحالته إلى الاستفتاء العام، وهو ما لم تستطع المعارضة أن تفعل الشيء الكثير أمامه في الشارع، قبل أن تقوم، بعد تردد بين المقاطعة والمشاركة بـ «لا» في الاستفتاء، باختبار فاشل لقوتها في الاستفتاء أمام الرئيس مرسي الذي نجح أيضاً في هذا الاختبار الجديد للقوة أمام المعارضة مثل اختباريه السابقين أمام المؤسستين العسكرية والقضائية.
هذه الاختبارات للقوة ما زال الحاكمون الجدد في القاهرة يحاولون تكرار تلمسها في ميادين حساسة للرأي العام، مثل الاعلام والفن، وهم يقدمون مؤشرات بأنهم على وشك تطبيق ذلك على مؤسسة الأزهر، ويعطي ذلك انطباعاً عن جماعة سياسية تملك شهية كبيرة للسلطة، وهي في حالة من الاستعجال الكبير في ذلك، لدرجة أنه من الواضح أن ما احتاجه عبد الناصر من سنتين، بين 1952 وحتى أزمة آذار 1954 لكي يكشف أجنداته السلطوية لما كان مختبئاً وراء محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة، لم يحتج أكثر من ستة أشهر عند جماعة «الاخوان المسلمين» في عام 2012، مع العلم أنه في حالة مشابهة للحالة المصرية، كما في ايران بعد ثورة 1979، لم يكن الخميني مستعجلاً حيث ظل حتى منتصف عام 1981 قبل أن ينفرد بالسلطة مبعداً على التوالي مشاركيه في الثورة من الليبراليين (مهدي بازركان وكريم سنجابي وابراهيم يزدي) والاسلاميين المعتدلين (شريعتمداري) ثم يختم هذا المسلسل من التصفيات مع «مجاهدين خلق» وحليفهم رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر. هذا الانكشاف السريع للأجندات السلطوية يتجنبه دائماً الحكام الجدد في البلدان المختلفة، سواء كانت نظمها ديموقراطية أم العكس. الواصلون الجدد الى سدة السلطة يركزون في بداياتهم القلقة وغير المستقرة على المبادئ ويتجنبون دائماً الافراط في اظهار هذا المقدار الكبير من البراغماتية، كما بان عند جماعة «الاخوان المسلمين» في القاهرة، في نزوع أظهرته الجماعة لا يملكه عتاة البراغماتية من الليبراليين والماركسيين.
كان أحد عواقب هذا الانكشاف السريع للأجندات السلطوية انقسام عميق في الشارع المصري يواجهه حكم جماعة «الاخوان المسلمين» في القاهرة. فخلال ستة أشهر أصبح حائط الصد الذي أصعد الدكتور مرسي للرئاسة في وجه الفريق أحمد شفيق منفرطاً إلى شقين: «الاخوان» والسلفيون في وجه أنصار البرادعي – حمدين صباحي- الوفد، هذا من دون ذكر أن القاعدة التصويتية «للاخوان» في ثلاثة اقتراعات (نيابية-رئاسية-استفتاء الدستور) كانت في منحى نزولي إذا أخذنا الحجم العددي للأصوات، ومن دون تسجيل أن التحالف «الاخواني-السلفي» ليس متيناً بما يكفي كما يشير الكثير من المعطيات.
هذه البراغماتية «الاخوانية» لم تكن بعيدة من سلوك الحكام المصريين الجدد في السياسة الخارجية: ارضاء واشنطن، وعدم تجاوز الخطوط الخضر والحمر والصفر المحددة وفقاً لاتفاقيات كمب دايفيد، ولو مع تسجيل سياسات تجاه حرب غزة 2012 أبداها الرئيس المصري الجديد كانت متمايزة عن ما أبداه سلفه في حرب 2008-2009، وهو أمر على ما يبدو لم يقلل من أسهم مرسي عند البيت الأبيض، بل عززها، بدليل الرعاية المشتركة الأميركية – المصرية لاتفاقية التهدئة الأخيرة في غزة.
في المجمل العام، هناك جماعة سياسية أظهرت في اختبارها السلطوي الأول، خلال ثمانية عقود، مدى قدراتها، وطريقة سباحتها في هذا البحر المتلاطم الأمواج: ما معنى ذلك مستقبلياً على الصعيد المصري، وما آفاقه وتأثيره على صعيد المنطقة التي كانت القاهرة تفتتح مراحلها، سواء في عام 1919 مع المرحلة الليبرالية الوفدية، أم في «23 يوليو» 1952 لما قدمت مصر نموذجاً عسكرياً للسلطة، مع توجهات عروبية، فتبعتها بغداد ودمشق والجزائر وصنعاء والخرطوم وطرابلس الغرب؟
الحياة اللندنية – محمد سيد رصاص .