كان الاعتقاد خلال ثورة يناير (كانون الثاني) أن مصر مقبلة على نمط جديد من الحكم يختلف عن ما بقي سائدا على مدى مئات، والبعض يقول بل على مدى ألوف السنين، ولقد ساد إحساس قبل أن يختطف «الإخوان» الثورة ويختطفوا الحكم والسلطة أيضا، بأن هؤلاء سيتخلون عن شموليتهم وعن ألاعيبهم ومناوراتهم، وعن عدم استقرار لا صداقاتهم ولا عداواتهم، وأنهم سيقبلون بـ«الشراكة»، مع أنه ليس كل القوى الأخرى، فمع معظمها وبنوايا صادقة وطيبة، لكن ثبت أن الطبع يغلب التطبع دائما وأبدا وباستمرار، وأن كل هذه المراهنات كانت مجرد سراب كسراب الصحراء في صيف «قائظ» شديد الحرارة.
في البدايات أشعر «الإخوان المسلمون» الآخرين، وأشعروا الشعب المصري والعالم كله أيضا بأنهم زاهدون في الحكم، وأنهم في السنوات الأولى من التجربة الجديدة سوف يكتفون بأن يكونوا الأكثرية في مجلس الشعب والسلطة التشريعية، وأن يكون دورهم الأساسي «رقابيا»، لكن هذا الكلام ما لبث أن تبدد أمام مغريات السلطة والنفوذ، فكانت اندفاعتهم الغضنفرية نحو الانتخابات الرئاسية، وكان تلويحهم بإغراق مصر كلها في الدماء، وإشعالها بالحرائق إن فاز المرشح الآخر، الذي هو أحمد شفيق، على محمد مرسي الذي اتضح أنه لم يكن يحلم في أي يوم من الأيام بأن يدرك ليلة كليلة القدر، ويصبح رئيسا لدولة تعتبر واحدة من دول الشرق الأوسط الأهم والأكثر تأثيرا وعراقة.
لم يتأخر «الإخوان المسلمون» في إسقاط الأقنعة عن مواقفهم الحقيقية، وعن أنهم حزب شمولي واستبدادي، مثلهم مثل كل أحزاب الانقلابات العسكرية التي حكمت ولا يزال بعضها يحكم في بعض دول المنطقة، والتي أذاقت شعوب هذه الدول الأمرَّين، وأنهم لا يقبلون بالآخرين، ويعتبرون «الشراكة» مع هؤلاء رجسا من عمل الشيطان، فكان انقلاب محمد مرسي هذا الأخير الذي لم ينقصه سوى «البلاغ العسكري رقم 1» ليكون انقلابا عسكريا لا يكتفي بذبح المعترضين والمعارضين في الشوارع والميادين العامة، بل بتعليقهم أيضا على أعواد المشانق وإذابة أجسادهم في «الزنازين» الانفرادية.
والحقيقة أن هذا الذي جرى ويجري في مصر، والذي لا أحد يستطيع أن يجزم بأين سيأخذ هذا البلد، الذي أثبت شعبه أنه شعب حي ولا يمكن أن يخضع لأي نظام استبدادي وشمولي بعد ثورته المجيدة الأخيرة، هو جزء مما يعم هذه المنطقة بمعظم دولها، ولذلك فإنه من غير الممكن الجزم بأين ستذهب الأمور إن في سوريا، وإن في تونس، وإن في العراق، وإن في لبنان، وإن في اليمن السعيد، وبالطبع إن في مصر.. وأيضا في ليبيا، وربما في موريتانيا وفي كل الدول التي هناك تحت رمادها يعسعس جمر متقد ومتأجج، وتنام ألسنة نيران ملتهبة.
وهنا، لعل ما يمكن الاتفاق عليه وبسهولة هو أنه بسبب كل هذا الذي جرى ويجري في المنطقة، إن في مصر، وإن في سوريا، وإن في العراق، وفي تونس، وفي اليمن، وفي لبنان، وفي دول أخرى لا تزال الأوضاع فيها متأرجحة رغم نجاحها المبدئي في استيعاب هذه الموجة التي غشتها كما غشت غيرها، هو اهتزاز المعادلات السابقة في هذه المنطقة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية في بدايات تسعينات القرن الماضي، وبالتالي بروز الولايات المتحدة كقطب ليس واحدا، وإنما أوحد في العالم كله، وفي الكرة الأرضية.
والمعروف أن بداية كل هذا الذي شهدته هذه المنطقة سابقا، والذي تشهده الآن، هو انهيار الإمبراطورية العثمانية الذي كان سبقه مؤتمر برلين الشهير 1878 الذي خططت خلاله الدول الغربية لهذا الانهيار، ولتقاسم تركة العثمانيين، وهو اتفاقيات سايكس – بيكو الشهيرة والمعروفة، وهذا كله قد أدى إلى ما بقيت تتعرض له منطقتنا العربية من انقلابات عسكرية، ومن عدم استقرار كانعكاس للصدام الذي بقي محتدما منذ الحرب العالمية الثانية وقبل ذلك، وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية في بدايات تسعينات القرن الماضي، حيث خلا الميدان العالمي للولايات المتحدة، وأصبحت هي القطب الأوحد في الكرة الأرضية.
في ظل صراع المعسكرات هذا، تم اعتماد إسرائيل من قبل المعسكر الرأسمالي كخندق متقدم، وكمخفر أمامي للغرب في هذه المنطقة، وبمهمة هي التصدي للزحف الشيوعي الموهوم على منطقة الشرق الأوسط الاستراتيجية والهامة والحساسة، وفي ظل هذا الصراع كانت هناك كل سلسلة الانقلابات العسكرية التي بدأت في سوريا في عام 1949، والتي شملت العراق بدءا بانقلاب عبد الكريم قاسم في عام 1958 وانتهاء بانقلاب صدام حسين على رفاقه في عام 1979، مرورا بما سمي حركة الضباط الأحرار في مصر عام 1952، وبانقلاب معمر القذافي على الملكية السنوسية في عام 1969، وبالانقلابات المتلاحقة في اليمن الشمالي واليمن الجنوبي، وبالحروب التي تلاحقت بين هذين الشطرين اليمنيين، وأيضا بانقلاب السودان، وبالحروب الأهلية في لبنان، وبما سمي بثورة ظفار، وبتحول زياد بري إلى الماركسية والتحالف مع موسكو، ثم التخلي عنها إلى الغرب «الإمبريالي»، ولاحقا ترك الصومال، ليبدأ حروبه الأهلية التي لا تزال متواصلة حتى الآن.
وفي إطار هذا الصراع أيضا بدأ الاهتمام الغربي بما سميت حركات الإسلام السياسي، وكانت البداية الحقيقية عندما احتضنت الولايات المتحدة، بعد إزاحة الاستعمار القديم من المنطقة، «الإخوان المسلمين» واعتمدتهم كسلاح ضد القوى القومية واليسارية التي كانت تعتبر حليفا للاتحاد السوفياتي وتدور في فلكه، كالشيوعيين والناصريين والبعثيين والقوميين العرب، وحقيقة أن «هؤلاء»، أي «الإخوان»، قد أبلوا بلاء حسنا في هذا المجال، مما جعل الأميركيين يراهنون عليهم مجددا، على اعتبار أنهم القوة الرئيسية لـ«الإسلام المعتدل» لمواجهة «القاعدة»، ومواجهة كل الحركات الأصولية والمتطرفة التي تكاثرت كثيرا بعد الغزو السوفياتي لأفغانستان، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق، وبعد اشتداد كل هذا العنف الذي غدا يضرب هذه المنطقة.
ولهذا، فإن ما بات ثابتا هو أن الأميركيين قد لعبوا الدور الرئيسي في تنحية مبارك ونظامه، وأنهم بالضغط الشديد والمتواصل على المجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية قد جيروا انتصار ثورة «يناير» المجيدة إلى «الإخوان المسلمين»، وأنهم هم الذين حسموا الأمور وبسرعة لمصلحة محمد مرسي عندما سادت تلك الضبابية المعروفة بالنسبة لنتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة بينه وبين أحمد شفيق، لكن يبدو أن الولايات المتحدة قد فوجئت بتخلي «الإخوان» عن كل وعودهم، وبعودتهم السريعة إلى شموليتهم المعروفة، وإلى عدم قبولهم بالآخرين كشركاء، وأنها فوجئت أيضا بأن رهانها على هؤلاء، إن في مصر، وإن في تونس، وإن في الأردن، وإن في المسألة الفلسطينية، وربما أيضا إن في سوريا، هو رهان خاسر، وأن عليها أن تستبدل بأحصنتها وبسرعة أحصنة جديدة.
ولذلك وما دام أن مشكلة منطقتنا أنها بقيت ميدانا لصراع المعسكرات منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية وقبل ذلك، وأن معظم أنظمتها، وبخاصة أنظمة الانقلابات العسكرية، قد أوصلتها إلى أوضاع مزرية لم تعد تطاق ولا تحتمل، فإنه يجب عدم استغراب أن تكون هناك كل هذه الزلازل والأعاصير التي تضرب هذه المنطقة، وأن يحاول «الإخوان المسلمون» الاستحواذ على الربيع العربي في كل البلدان التي غشاها ووصل إليها، وفي مقدمتها مصر، وأن يستهدفوا القوى الديمقراطية والعلمانية والليبرالية الصاعدة، أكثر حتى من استهدافهم للأنظمة السابقة القديمة.. ولهذا فإنه لا بد من القول إن هذه الحالة المصرية قد تطول، وإن هذا الصراع الاجتماعي والسياسي المحتدم قد يستمر، وبخاصة في أرض الكنانة وفي تونس، لفترة طويلة.
عن الشرق الاوسط السعودية