اكتست زيارة وزير الخارجية الأمريكي جون كيري إلى مصر أهمية خاصة، وكانت محل الترقب لما تحمله من أجوبة وإشارات عن السياسة الأمريكية في مصر بعد فترة من عدم الاستقرار فيها، ولما تكشفه عن العلاقة الاستراتيجية مع “الإخوان” وما تطور فيها، خاصة أن كيري هو أحد مؤيديها الأقوياء وتابعها من قبل بشكل مباشر في زيارات عدة إلى مصر .
وبالنسبة للدور الأمريكي في مصر، كما كشفته الزيارة التي انقضت منذ أيام قليلة، فإن سلسلة لقاءات كيري واجتماعاته المختلفة في مصر تعطي صورة عن الدور والنفوذ الأمريكي المتعاظم، بل والمركزي والكلي في مصر المحكومة بالإخوان، بحيث إن هذا الوجود المتغلغل تجاوز شكل العلاقة منذ أن بدأت عام 1978 .
لقد التقى كيري المعارضة، وكان أحد ممثليها يجلس في صفوف الوفد الأمريكي، كما التقى قادة منظمات المجتمع المدني والمثقفين ورجال الأعمال وممثلات المرأة المصرية، والتقى إسلاميين معتدلين ودعاة مثل عمرو خالد . ومن جهة أخرى اجتمع بوزير الدفاع ومدير المخابرات، وتحادث بالطبع مع الرئيس المصري . فهل كانت الرسالة مقصودة أمريكياً في تنميط العلاقة ببلد عربي مركزي مثل مصر بحكمه الجديد بهذا الشكل، بحيث تصبح أنموذجاً للمنطقة كلها ارتباطاً بأخونة الحكم؟
لقد كبر على بعض المصريين من أصحاب الرأي أن يصل الدور الأمريكي إلى هذه الدرجة من المحورية في الشأن المصري، وأن يتحدث جون كيري إلى المصريين الذين التقوه أو سمعوه في الإعلام عن الاقتصاد المصري وشؤون المعارضة وصراعها مع الحكم، وعن قانون تنظيم الانتخابات وقانون التظاهر وقانون الجمعيات الأهلية، كما عن دور الجيش والرئاسة وكل أمر مهم لمصر في حياتها المدنية والسياسية . لقد عدّ سياسيون مصريون شق عليهم هذا الإمساك الأمريكي بخيوط السياسة الداخلية لمصر أنه ثمرة ومظهر للمصالح الإخوانية الأمريكية المشتركة وأحد أسباب التحبيذ الأمريكي للإخوان كفصيل سياسي بعد توتر العلاقة بالنظام السابق الذي بلغ ذروته عام 2011 .
وبالنسبة لانعكاس الزيارة على العلاقة الاستراتيجية مع جماعة الإخوان وحكمهم في مصر، فإن عبارة كيري الأخيرة و”المفيدة” وهو يغادر مصر تلخص متانة العلاقة واستمراريتها، إذ قال إنه “سعيد ومطمئن لقدرة الرئيس مرسي على السير في طريق الديمقراطية” . تحسم العبارة أمراً غير قابل للشك فيه أصلاً، لولا أن بعض الليبراليين المعارضين لمرسي ولجماعة الإخوان اعتقدوا أن بإمكانهم كشف غطاء الدعم الأمريكي عن “الإخوان” وإزالته من خلال اقناع الساسة الأمريكان بحقيقة السلوك اللاديمقراطي لمرسي وحكومته .
جون كيري هو الذي نظر شذراً ذات يوم في اجتماع دعت إليه السفارة الأمريكية مع المثقفين المصريين إلى المفكر المصري جلال أمين الذي أبدى وجهة معارضة للمراهنة الأمريكية على الإخوان، وذلك في وقت لم يصلوا فيه بعد إلى حكم مصر . وقال كيري بلهجة حاسمة “إنهم الأكثر تنظيماً . .”، الأكثر تنظيماً في ما تعنيه الجماعة أمريكياً يتمثل في قيادتها المركزية من مكتب الإرشاد في القاهرة على تعدد فروعها في بلاد العرب وأوروبا وأمريكا وسائر القارات . إنها الجماعة الأسهل في التعامل والتعاون أيضاً، خاصة مع تبدي “إسلاميتها” عن كونها مجرد واجهة جماهيرية وطلاق هذه “الإسلامية” من المبادئ والمتطلبات التي تفرضها الشريعة . “الإخوان” بتفرعاتهم العربية والدولية هم من راهنت عليهم إدارة أوباما لتحقيق مصالحها بصورة إيجابية تفوق ما فعلت الأنظمة العربية التي عارضها الإخوان .
وقد استجابوا “إيجابياً” في حماية المصالح الأمريكية وتأييد الرؤية الأمريكية على صعد عدة ورئيسة منها: ضمان أمن “إسرائيل” على جبهة غزة، وفتح الباب على مصراعيه لتعاون مصري – أمريكي في سيناء بالارتباط مع “إسرائيل” والتحرك عربياً ضمن الدائرة التركية – القطرية، وخاصة ما يتعلق بسوريا، وأخيراً الالتزام بنسق الاقتصاد الحر .
وحين يثير الليبراليون المصريون من أصدقاء أمريكا مسألة لا ديمقراطية “الإخوان” وفرضهم سياسة الأمر الواقع في ما يتعلق بالانتخابات البرلمانية، وقبل ذلك ضربهم عرض الحائط بالقانون والدستور وانتهاكهم المستمر لسلطة القضاء وقتل المتظاهرين والاستيلاء الممنهج على إدارات الدولة ووظائفها، فإن جون كيري لا يعدّ ذلك انتهاكاً للديمقراطية أو ممارسة منافية لها . إنه يؤكد على “ديمقراطية” مرسي ويقول إنه سعيد ومطمئن لسيره على الطريق الديمقراطي، والديمقراطية هي هنا مفهوم فضفاض يعني المصالح الأمريكية وتحقيقها ولا علاقة له بمعنى الديمقراطية في مفهومها الغربي الذي توهمت الشعوب بإمكانية تطبيقه عربياً .
جاء كيري إذاً، مؤيداً لمرسي وداعماً له، رغم أنه صرح بأنه لا يقف مع طرف مصري ضد الآخر . إن ضغوط كيري على المعارضة للالتحاق بعملية الانتخابات والتوافق مع مرسي رغم عدم اقتناعها بذلك هو بالقطع شكل من أشكال جلب الدعم لحكومة الإخوان وإضفاء الشرعية عليها في ظل مظاهر جدية من الرفض الشعبي لها وتمرد الأقاليم عليها .
وإن كانت زيارة كيري لمصر هي تجديد للثقة الأمريكية بالحكم الإخواني لمصر، بل والأمل في رؤية امتدادات من شاكلته في المنطقة العربية، فإنها بلا شك، قد أحدثت فرزاً من نوع جديد في الساحة المصرية . هذا الفرز هو رد فعل للعلاقة الوثيقة وكون “الإخوان” هم الركيزة الجديدة للسياسة الأمريكية في المنطقة . إن كان “الإخوان” في هذا الاصطفاف، فإن العكس هو ما يصبح الموقف الطبيعي، ولهذا فإن شخصيات في المعارضة رفضت حضور لقاءات كيري ورفضت ضغوطه كذلك، حيث هنا تسجيل الموقف “الوطني” بالضد من الارتماء الإخواني في الحضن الأمريكي، وأنها لمفارقة غريبة أن يكون “الإخوان” هم الأقرب للأمريكان من حلفائهم الطبيعيين وهم الليبراليون .
الخليج الإماراتية