من الطبيعي أن يختلف البشر على قضية ما، بغض النظر عن مدى أهمية تلك القضية من عدمه، والبشر عندما يختلفون، فذلك لان هذه هي طبيعتهم، حيث من غير الممكن أن يكون هؤلاء نسخا متطابقة عن بعضهم البعض، والاختلاف عندما يكون مبررا، فهو إنما يشكل ظاهرة صحية تعمل على تفعيل العقل من اجل الوصول الى قواسم مشتركة، للنهوض في المسألة موضوع الاختلاف، او الوصول الى فهم يقرب وجهات النظر حتى لا تستفحل الحالة، فتتحول او تصل الى مراحل يصعب التعاطي معها، وقد تجلب الكوارث او عواقب غير مضمونة او محمودة.
تختلف الناس في كثير من الأشياء إن لم يكن في او على كل الأشياء، وحتى فيما يتعلق بالواحد الأحد او الرب المعبود، فهي تختلف عليه، وإلا لما كانت كل هذا الأديان والشرائع، ولكان بنو البشر أصحاب ملة واحدة يعبدون إله واحد، ويشدون الرحال الى مكان واحد او قبلة واحدة.
هذا الفهم كما نراه ويراه كل صاحب عقل سليم، من الواضح انه مختلف تماما لدى القائمين على حركة الإخوان المسلمين في مصر، او في أحسن الأحوال لدى كثير من قياداتهم، حيث خرج على الناس من هؤلاء مؤخرا من يعلن وفاة ثورة يوليو المصرية، وطالب بإلغاء الاحتفال بها وكأنها لم تكن، وقالوا ان الثورة الجديدة “ثورة يناير” مسحت ثورة يوليو وان الأخيرة أصبحت في ذمة التاريخ.
قد نختلف في النظر الى ثورة يوليو، حيث قد يراها البعض انها كانت من ابرز واهم الثورات العربية في الحقبة الاستعمارية على الإطلاق، كما قد يراها البعض انها لم تستجلب إلا الويلات على امة العربان، وقد يرى البعض ان الانجازات التي قدمتها تلك الثورة كانت مميزة الى حد بعيد، وان ما قامت به لم يزل شاهدا على عظمتها وانجازاتها، فيما قد يرى البعض ان تلك الانجازات لم تكن إلا شكلية وعديمة الأهمية وانها أهدرت المال العام، وما الى ذلك.
هذا الاختلاف في النظر الى ثورة يوليو حق مشروع ولا يمكن نكرانه، أما ان نلغي تماما الثورة وان نقول انها لم تعد جزءا مهما في التاريخ المصري، فهذا ما لا يمكن لعاقل ان يقبل به.
التنكر للآخر، لا يعني بحال من الأحوال انه غير موجود، والتنكر لعبد الناصر الذي انقلبت عليه حركة الإخوان ولم تر من حقبته غير الاعتقالات والمطاردة والتعذيب كما تقول، لا يعني ان الثورة لم توجد، ولا يعني التنكر للآخر ان نحمل المعاول لنهدم السد العالي كما طالب احدهم بهدم الأهرامات او كما تم هدم تماثيل بوذا في أفغانستان، فمثل هذا النمط من التفكير ليس سوى تفكير عدمي لن يقود الى خير البلاد وصلاح العباد، وهو مؤشر على تفكير يحمل “حقدا” مبيتا على كل من هو غير إخواني، وهو تجسيد لتفكير يقصي الآخر ولا يعترف به وبما قدم وما زال.
لا يمكن إلغاء التاريخ بهذا الشكل الفج، ولا يمكن لمن يأتي الى سدة الحكم ان يعتقد بان التاريخ بدأ به او من عنده، وإلا لما قرأنا عن الراشدين لان الأمويين سيلغون تاريخهم ولا قرأنا عن الأمويين لأن العباسيين سيفعلون الشيء ذاته، ومن غير الممكن انه كلما أتى قوم قاموا بإلغاء من سبقهم لمجرد اختلافهم معهم، وبالتالي من غير الممكن قبول ما قاله المرشد العام السابق للإخوان المسلمين محمد حبيب، من ان ثورة يوليو لم يبق منها شيئا، فهو كلام يجانب الصحة، ولا يدلل سوى على “حقد” غير مبرر.
ان ثورة يوليو كغيرها من الثورات، لها ما لها وعليها ما عليها، ويمكن لمن يشاء ان ينتقدها ويوجه اللوم لها ولقادتها على ما ارتكبوا من أخطاء وربما خطايا لا تغتفر، لكن الادعاء بأنها لم تقدم شيئا وان شيئا منها لم يبق، فهذا حديث فيه من المبالغة الكثير، وفيه أيضا من عدم الدقة والمسؤولية الكثير.
الثورة “الحالية” التي يتغنى بها الاخوان وسواهم ممن قطفوا ثمارها، تعرضت للتشويه على يد هؤلاء خاصة في أيامها الأولى، وهي ثورة لم يشعل أوارها الاخوان ولا من والاهم، وبقوا في مقاعد الانتظار والترقب حتى أدركوا انها ثورة منتصرة، وخلال الفترة الوجيزة التي تلت استقالة حسني مبارك، مارست حركة الاخوان من “التكتيكات” والالتفاف على الثورة الكثير، ولم يكن للإخوان ان يقطفوا النتائج لولا قلة خبرة شباب الثورة وشح إمكانياتهم،عدا عن الرضا الغربي وتحديدا الأمريكي وكذلك الإسرائيلي،
ان تعرض السيد رئيس الجمهورية محمد مرسي لمرحلة الستينات ولو بشكل مقتضب، عندما قال ما معناه ” مرحلة الستينات وما أدراك ما الستينات”، تؤشر بشكل لا يقبل الشك ان هنالك موقفا مبيتا من قمة الهرم الى القاع ضمن حركة الاخوان المسلمين ضد ثورة يوليو، ومحاولة طمسها. تلك الثورة التي أمم قائدها قناة السويس، ودعم الثورات العربية في أكثر من بلد على رأسها الجزائر واليمن، ودعوات الوحدة وقيادة العالم الثالث وحركة عدم الانحياز.
إعلان وفاة ثورة يوليو من قبل فئات حاقدة لا تعترف بالآخر، لن يعني ان هذه الثورة سوف تموت، فهي باقية في قلوب ملايين المصريين والعرب، وستبقى كذلك، والشواهد عليها وعلى عظمتها ستبقى موجودة على الأرض، وستبقى جزء من التاريخ المصري ولن تندثر، فالتاريخ لا يمكن إلغاؤه بتصريح او ببيان من حركة هنا او حزب هناك.