غزة | في أيامٍ قليلة، تدحرجت كرة النار من مدينة الخليل إلى كلّ بقعة في فلسطين المحتلة بعد الجريمة الوحشية التي أودت بالطفل محمد أبو خضير. بركان الغضب الفلسطيني انفجر أخيراً في وجه الاحتلال الإسرائيلي. هذه الجذوة وضعت وسائل الإعلام العربية أمام اختبار حقيقي: إما أن تنحاز للجسد الفلسطيني الغضّ الذي أحرقته ثلّة من المستوطنين في القدس المحتلة، أو أن تسوّق الاحتلال على أنه «ضابطٍ لنفسه» في وجه «إرهاب فلسطيني» يقذف صلياته الصاروخية على مدن جنوب فلسطين المحتلة!
وسّعت وسائل الإعلام العربية عينها الإخبارية على «موجة الصواريخ التي تطلق من غزّة على جنوب إسرائيل»، فيما ضيّقتها على استباحة الاحتلال للدم الفلسطيني وانقضاضه ليلاً على قطاع غزّة. صحيحٌ أنّ أياماً عدة فصلتنا عن جريمة قتل الشهيد محمد أبو خضير، غير أنها ما زالت تفرض نفسها على الإعلام كونها الشرارة التي أشعلت انتفاضة الفلسطينيين.
«العربية» مثلاً راحت تشكّك في عملية قتل وحرق جثّة أبو خضير على يد المستوطنين، محاولةً غسل أيدي المستوطنين من القتل. أوردت القناة السعودية أنّ الشرطة الإسرائيلية اشتبكت مع فلسطينيين غاضبين من «خطف ومقتل فتى على يد مَن يعتقدون أنهم يهود متطرفون». ووضعت المحطة مقتل الجنود الثلاثة الإسرائيليين، واستشهاد الفتى الفلسطيني في كفّة واحدة! فأولئك «مراهقون» والآخر «فتى» قضى في «عمل انتقامي بحسب ما يعتقد كثير من الفلسطينيين»! الصوغ التشكيكي هذا قابله آخر تأكيدي من طرفها على ضلوع الحمساويين عامر أبو عيشة ومروان القواسمي في عملية قتل الجنود. أبدع الموقع الإلكتروني لهذه المحطة في صوغ عناوينَ تضخّم إمكانات المقاومة العسكرية في غزّة وتهديداتها مقابل تجاهل متعمّد لحمم طائرات الاحتلال التي تُقذف على رؤوس الغزيين. أعفت «العربية» نفسها من مسؤولية إدراج الاحتلال على قائمة الإجرام وألصقته بـ«حماس»، فذكرت على موقعها أنّ «حماس تتوعّد إسرائيل بدفع ثمن جرائمها». هكذا، حصرت «العربية» عبارة «دفع ثمن جرائمها» بين علامتي تنصيص لتبرّئ ذاتها من تجريم الاحتلال، وتلصقه بجماعة تتنامى قدراتها العسكرية بحسبها! غريمتها القطرية ظلّت تواكب الأحداث الفلسطينية التي تجري بوتيرة متسارعة. غير أنها بقيت متربعة على عرش «السبق الصحافي» اعتماداً على مصادر إسرائيلية. حظيت «الجزيرة» على امتياز إسرائيلي خاص. بينما منع الاحتلال نشر أي تفاصيل حول حقيقة قتل الجنود الثلاثة، قطعت «الجزيرة» الشك باليقين، وكانت أول من ذاع الخبر وفقاً لهذا الصوغ: «مصادر إسرائيلية لـ«الجزيرة»: العثور على الجنود الثلاثة مقتولين في حلحول شمال الخليل» من دون أن تنافسها بالطبع أي محطة إخبارية على ذلك.
تركيز على الصواريخ
التي تستهدف «جنوب إسرائيل» وتجاهل لممارسات الاحتلال
أما صحيفة «النهار» اللبنانية، فتفوّقت على غيرها من الصحف وكسرت جميع المقاييس في قراءتها لأبعاد الحملة العسكرية الواسعة التي يشنّها الاحتلال. قاربت الصحيفة حالة الغليان في فلسطين المحتلة بطريقة معكوسة. حسمت أمرها وجزمت أن الاحتلال ضابطٌ لنفسه، فيما «حماس» مصرّة على «الفلتان». كتبت «النهار» في أحد عناوينها: «هل ستواصل إسرائيل ضبط النفس في مواجهة الأحداث الأخيرة؟» (4/7/2014). وأوردت في متن الخبر ذاته «تقوم إسرائيل بجميع الاستعدادات اللازمة لعملية موسعة ضد القطاع في حال لم تضبط «حماس» نفسها وتمنع إطلاق الصواريخ وتعمل على تهدئة الوضع». تجاهلت الصحيفة أن الاحتلال «الضابط لنفسه» اعتقل في الأسابيع القليلة الماضية حوالى 700 فلسطيني، وقتل 19 آخرين، وفجّر وهدم عدداً من المنازل، فضلاً عن أنّ دم أبو خضيرة لم يجف بعد! من جهتهما، همّشت صحيفتا «القدس العربي» و«الحياة» حملات الكراهية والعنصرية ضد العرب التي أطلقها جنود وناشطون إسرائيليون على مواقع التواصل الاجتماعي، وتخلّلتها عبارات مثل «أريد دماً، وأطفالاً فلسطينيين يتامى»، لكنّهما سلّطتا الضوء على تودّد قادة الاحتلال إلى العرب ودعوتهم المصطنعة إلى محاسبة من يروّج لتلك الشعارات الثأرية والعنصرية. عنونت «القدس العربي» هذا الخبر الذي كتبه مراسلها وديع عواودة كالتالي «رئيسا إسرائيل يحذّران: مظاهر الكراهية تنطوي على كارثة» (4/7/2014)، مركّزةً على تصريحات الرئيس الإسرائيلي المنتهية ولايته شمعون بيريز، ورؤوفين ريفلين الداعية إلى «احترام القانون وصيانة اللسان لتمكين جيراننا من العيش بسلام» و«ضرورة إخماد نار الفتنة والكراهية بين الشعبين». هدم عواودة الحواجز الراسخة بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الاسرائيلي بإسقاطه مصطلح «الاحتلال» واستبداله بـ«الشعب»، فذكر أنّ «على الأرض تسود حالة من التوتر بين الشعبين على طرفي الخط الأخضر». سارت «الحياة» على الدرب ذاته، موردةً أن «مسؤولين إسرائيليين يدعون لمحاسبة الجنود الذين يروّجون لشعارات ثأرية ضد العرب».
كالعادة، بقيت قناة «فلسطين» غائبة عن المشهد «حرصاً» على عدم تخريب برمجتها الرمضانية من مسلسلات وبرامج طهي. بذلك، حافظت على وزنها الضئيل عند الجمهور الفلسطيني، فيما أحاطت وكالة «معاً» الفلسطينية جيش الاحتلال الاسرائيلي بهالة من البطولة، ذاكرةً أنّ «الجيش حرّر ثلاثة مستوطنين احتجزوا غرب رام الله»، كأن الجيش ذو هوية فلسطينية، وينافح عن الأسرى الفلسطينيين وصولاً إلى مرحلة تحريرهم. آمال شحادة، مراسلة lbci في فلسطين المحتلة، أتحفت المشاهد بتبنيها الرواية الإسرائيلية. أكّدت في تقريرها «حرب أم تهدئة؟» أن أي عمليّة إسرائيلية موسّعة قد تشنّ ضد القطاع ستهدف إلى منع إطلاق الصواريخ والقضاء على «حماس». بذلك، أقصت شحادة المدنيين من دائرة استهداف العدوّ، فيما أكدت أن المقاومة الفلسطينية في غزّة أوغلت في ضربها «مدنييّ العدوّ». وقالت: «الصوت الحربي ارتفع مع سقوط صواريخ من غزّة على مناطق مأهولة بالسكان من بينها مخيم صيفي للأطفال، ما تعتبره إسرائيل تجاوزاً للخطوط الحمر». وبقيت mtv اللبنانيّة محافظةً على قاموسها اللغوي، فلا اعتداء إسرائيلياً ممنهجاً على الفلسطينيين، بل «أعمال عنف بين الجانبين». وكي تكتمل شهادة الزور في الإعلام العربي، رفعت عزّة سامي نائب رئيس تحرير صحيفة «الأهرام» المصريّة القبعة لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لسحقه الفلسطينيين، مغرّدةً على تويتر: «كثر خيرك يا نتنياهو ربنا يكثّر من أمثالك للقضاء على حماس والعمالة الإخوانية والفساد والخيانة». هيّا، هلمّوا لنهش أجساد الفلسطينيين، لنصنع بذلك الفرحة الكبرى لسامي!
وحدها في الميدان
لعل «الميادين» كانت الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي أعدّت تقريراً مفصّلاً عن عقيدة الكراهية المتجذّرة في نفوس الإسرائيليين. غير أن قناة «الواقع كما هو» وقعت في فخ عدم التأكّد من صحة الأخبار التي تردها، فنقلت عن إحدى مراسلاتها نبأ «سقوط صاروخين للمقاومة على المفاعل النووي في ديمونا، وتحذير إسرائيلي من تسرّب نووي نتيجةً لذلك». تبيّن لاحقاً أنّ إدارة الجيش السوري الإلكتروني اخترقت الحساب الرسمي لوزارة الحرب الإسرائيلية على تويتر ونشرت تلك التغريدة، انتقاماً لروح الشهيد الفتى محمد أبو خضير.
الأخبار اللبنانية