حرب إقليمية في أحد تجلياتها النفسية، هذه نتيجة ما أقدم عليه العدو الإسرائيلي باغتيالاته التي تجاوزت مجموعات من الخطوط الحمر، ليس لمحور المقاومة فقط، بل للأعراف والمواثيق الدولية برمتها، وهذا طبيعي في ظل عدم اعتراف هذا العدو بأيٍّ من تلك الأعراف على مدى ستة وسبعين عاماً هي عمر كيانه المؤقت على أرضنا العربية الفلسطينية.
استنزاف ما قبل الحرب يُشبه في شكل من أشكاله اندلاع الحرب الإقليمية، وفي هذا فإن الانتظار هو سيد الموقف بلا منازع. انتظار الخطوة العسكرية التالية، وهو ما يترك أسئلة أكثر بكثير مما يترك أجوبة، حول مدى مسؤولية حلفاء “إسرائيل” عما جرى ويجري، ومدى علمهم باعتداءات تل أبيب التي أودت بالأمور إلى حافة الحافة من الهاوية، ومدى الانخراط المتوقع لهؤلاء الحلفاء في دعم “إسرائيل” في أي مواجهة قريبة.
المشهد الذي وصلت إليه المنطقة منذ مساء 30/7/2024، واستهداف الضاحية الجنوبية لبيروت ثم العاصمة الإيرانية طهران، لا ينفصل بأي شكل عن نقطة مهمة مهَّدت للتصعيد الإسرائيلي: زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى واشنطن. لا دليل أن “إسرائيل” لم تأخذ الضوء الأخضر من الولايات المتحدة للقيام بعمليات الاغتيال التي زادت الوضع تعقيداً، وأرسلت رسائل تخدم مصلحة الطرفين:
في الضاحية، اغتالت “إسرائيل” القائد العسكري للمقاومة الإسلامية في لبنان، كهدف استراتيجي كانت تريد رأسه منذ سنوات، وهي بهذا حققت مصلحة ولو آنية لها، وفق منطقها الذي أثبت فشله، فسياسة الاغتيال لم تنجح مرة في وقف أي حركة مقاومة، ولم تؤثر عليها، فما بالك بالحزب الذي يوصف بالقوة الأكثر تنظيماً وسريَّة في المنطقة، بل والعالم.
في طهران، كانت الرسائل “إسرائيلية” أمريكية في آن معاً. الرسالة الإسرائيلية مفادها أن تل أبيب لا تريد التفاوض لوقف الحرب على غزة، بل إن وقف الحرب ليس في قاموس مفرداتها السياسية ولن يكون، وأنها حققت “نصراً” على المقاومة في غزة باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”. الرسالة الأمريكية أبعد، لطهران التي كانت تنصِّب رئيسها الجديد قالت واشنطن إنها ستبدأ صياغة العلاقة النارية من جديد، ولموسكو قالت إدارة جو بايدن إنها لا تزال قادرة على إحداث البلبلة شرقاً، ولا تزال قوتها في المنطقة قادرة إشعال الأوضاع، وللصين التي يمر طريق حريرها الجديد من إيران قالت الولايات المتحدة إن استقرار المنطقة يمر عبر واشنطن وربيبتها “إسرائيل”.
قبل ذلك، في اليمن، اعترفت “إسرائيل” وواشنطن بدور اليمن في المعركة، وبالتالي فإن ما يسري على المحور بأكمله يسري على صنعاء، إلا أن خطورة الموقع الجغرافي لليمن المتحكم بالتجارة الدولية في البحر الأحمر يُقلق واشنطن وتل أبيب، بنفس القدر الذي يكبِّل أيديهما عن توسيع حجم الحرب عليه.
هذه الدلائل تقول إن التصعيد في المنطق كان خياراً “إسرائيلياً” أمريكياً، لكنَّ مدى التصعيد واستمراره تحكمه عوامل عدة. ربما تأمل حكومة نتنياهو وإدارة بايدن أن تكون عوامل كبح التصعيد أكبر من عوامل الذهاب في الرد إلى الحد الذي لا يمكن أن تبتلعه كلتا الجهتين المعنيتين به. هذا ليس قرارَ من اختار تنفيذ الاغتيالات، لكنه يفرض عليه الاستعداد لكل الاحتمالات، خصوصاً وأن الكلمة الموحدة لدى كل الأطراف التي تعرضت للعدوان هي “الرد آتٍ وحتمي ومؤجل”، مع ترك ماهية الرد والجهات المشتركة فيه (كل جهة لوحدها أو بتنسيق بين أطراف المحور) ضمن إطار الحرب النفسية على الكيان.
لأجل هذا، حشدت واشنطن في البحر الأبيض المتوسط 12 سفينة حربية على الأقل، وفقاً لصحيفة واشنطن بوست، وذلك غداء إعلان القيادة المركزية للقوات البحرية الأمريكية، وصول أكثر من 3000 بحار وجندي إلى “الشرق الأوسط”، تزامناً مع تصريحات “ضبط النفس” التي بدأ مسؤولو الإدارة الأمريكية والغرب إطلاقها منذ الساعات الأولى التي تلت عمليات الاغتيال.
لكن الحشود العسكرية لا تكفي. تحتاج تل أبيب وواشنطن إلى ما هو أكثر من ذلك للتصدي لأي رد متوقع على عمليات الاغتيال: حرية الحركة العسكرية، لكن موقف الطرفين يبدو أصعب اليوم في ظل الإدانات التي أجمعت عليها دول المنطقة للاغتيالات الإسرائيلية الأخيرة. لا أحد يريد التصعيد إذاً، لكن الموقف يقتضي الرد والعقاب لمن ذهب بالأمور إلى حد التصعيد غير محسوب العواقب. وعليه فإن السيناريو الوحيد الذي يُمكن أن يقي المنطقة شر الوصول إلى الحرب الإقليمية الشاملة هو أن تبتلع تل أبيب ومن خلفها واشنطن ردَّ المقاومة على جرائمها الأخيرة مهما كان شديداً، وأن تتقبَّل أن جبهات الإسناد لغزة ستبقى مستمرة طالما بقيت حرب الإبادة الجماعية متواصلة على القطاع المحاصر، وطالما أن العدو يريد الذهاب بخيارات جرائم الحرب حتى النهاية، وأن الميدان هو من يحكم كلَّ النتائج، والواضح أن خيار الشعب الفلسطيني عموماً هو الصمود.. والانتصار.