واشنطن – حسين عبد الحسين /تعكس تصريحات نائب رئيس «مجلس الاحتياط الفيديرالي» (البنك المركزي) الأميركي، ستانلي فيشر، والتي أدلى بها أخيراً في ستوكهولم، قلقاً أميركياً حول وضع الاقتصاد العالمي عموماً. لقد مرت سنوات على «الركود الكبير» الذي بدأ في 2008، ومازالت اقتصادات كبرى عالمية تترنح، كما ظهر جلياً في بيانات نمو الفصل الثاني للاتحاد الأوروبي التي جاءت مخيبة للآمال.
القلق الأميركي لا ينحصر في اقتصاد الولايات المتحدة فحسب، بل في اقتصادات العالم ككل، فالتباطؤ في أوروبا ينعكس سلباً على الولايات المتحدة وصادراتها وعدد السياح الوافدين سنوياً. وارتباط نمو اقتصاد الصين بمشاريع الحكومة للبنية التحتية و «إدمان» بكين على الخطط المحفزة ينعكس سلباً كذلك على تجارة أميركا مع أكبر شريك لها.
أما خيبة الأمل الكبرى فجاءت من اليابان، حيث صارت التقارير تشير إلى تعثر «ابينوميكس»، أو الخطة التي وضعها رئيس الوزراء شينزو آبي والتي عول عليها كثر بعدما أظهرت في مراحلها الأولى نمواً جيداً، لكن التوقعات اليوم تشير الى نمو يقل عن 1.5 في المئة، ما قد يعني أن البلد في طريقه للعودة إلى عهده بالانكماش الذي عاشه على مدى العقدين الماضيين.
أما القلق الأكبر، فينبع من حيرة الاقتصاديين في فهم سر التباطؤ العالمي، ففيشر اعتبر في خطابه الأخير أن معظم التوقعات التي سرت في السنوات الخمس الماضية، تبين أنها خاطئة، معتبراً أن الاقتصاديين يتفادون إصدار توقعات على المدى البعيد، وصاروا أكثر التزاماً بتوقعات لا تتخطى أكثر من فصلين اقتصاديين. ويشير فيشر إلى أن الحيرة أصابته لأن من غير المعروف إن كانت الاقتصادات الكبرى تتباطأ لأسباب دورية أم بنيوية تتعلق بتغيير يطاول أنماط الإنتاج الذي يتطلب بنى اقتصادية، من بنية تحتية وموارد بشرية، تختلف عن تلك المتوافرة حالياً في معظم الدول.
وبهذا التحليل، يضيء فيشر على مدرسة من الاقتصاديين تعتبر أن التغييرات الحالية التي تطاول الاقتصادات العالمية أعمق كثيراً من دورات الصعود والهبوط المعروفة. ويعتبر هؤلاء أن البشرية عرفت، في فترات مختلفة من تاريخها، تبدلات في تقنياتها أدت إلى تغيرات كبيرة في معيشتها واقتصاداتها، مثل ما فعله اكتشاف الزراعة في المجتمعات البدائية، والثورة الصناعية في المجتمعات الزراعية.
واليوم، يعتقد هؤلاء الاقتصاديون أن العالم يشهد أولى ملامح الثورة المعلوماتية المرتكزة حول الإنترنت. ووفق هذه المدرسة، فإن المخاوف من الثورة المعلوماتية تتشابه مع تلك التي شابت مَن عاصروا الثورة الصناعية، إذ قضت الثورة الصناعية مثلاً على الخياطين واستبدلتهم بمعامل النسيج، وقضت المحركات العاملة بالبترول على الأحصنة والعربات، كما أنهت الكهرباء وظائف من عملوا في إضاءة الشوارع ليلاً بالكاز.
وتساهم الثورة المعلوماتية في إخراج كثر من سوق العمل، فالعاملون في خدمة الزبائن في المصارف تراجع دورهم لمصلحة أجهزة الصراف الآلي وانقلبت وظائفهم من وظائف ذات مرتبات عالية نسبياً إلى مرتبات تتساوى والحد الأدنى للأجور. ومثل الصرافات الآلية، حلت أجهزة مكان بدّالات الهاتف العاملة في خدمات الزبائن في الشركات الكبرى، وساهمت شركات مثل «أوبر» في تضييق السوق على سائقي سيارات الأجرة.
وفي «سيليكون فالي» في ولاية كاليفورنيا، تعمل كبرى شركات المعلوماتية على مشاريع من شأنها أن تغير كثيراً في أنماط المعيشة وأن تقضي على كثير من الوظائف والقطاعات المرتبطة بها. فشركة «غوغل» تجري منذ فترة بحوثاً على سيارة تقود نفسها، واشترت شركة «نست» التي تعمل على تطوير ربط الأجهزة الفردية والمنزلية عبر شبكة الإنترنت بالهواتف الذكية. وتوجد أجهزة طبية كآلات مراقبة الضغط، التي أصبحت موصولة بالمرضى بشكل دائم وتبث نتائجها لأطبائهم، ما انتزع من الممرضات دور قياس الضغط وفق الطريقة القديمة.
وعلى هذا النحو خرجت شركة «كوداك» العاملة في مجال التصوير من السوق بعدما حلت مكانها الكاميرات الرقمية في الهواتف المحمولة، وتكاد شركتا «مايكروسوفت» و«سوني» تلحقان بها بسبب تفوق «أبل» و«غوغل» و «فايسبوك» عليها، فيما أفلست أو تكاد شركات الهاتف الخليوي التي لم تواكب التطور مثل «موتورولا» و «بلاكبيري» و «نوكيا».
وتحتاج التغيرات في التقنية إلى تغيرات مماثلة في البنية التحتية الاقتصادية المرافقة. فالاتحاد السوفياتي السابق مثلاً، تحول إلى دول صناعية استثمرت كثيراً في معاملها وراحت تنتج من دون مراقبة، حاجات السوق، فأفلست الإمبراطورية وانهارت بالكامل. واليوم، فإن أي اقتصاد لا يُظهر مرونة سيعاني حتى يلحق بالقافلة فيعود إلى الحياة مجدداً.
بريطانيا لم تتبدل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بل اعتقدت أن الخدمات المصرفية كفيلة بالتعويض عن تراجعها، وهي فرضية ثبت خطؤها. أما اليابان فيبدو أنها غارقة في شبكات مصالح داخلية تمنع التغيير. وحدها أميركا وألمانيا والصين تظهر مرونة سمحت لها باحتلال مراكز الصدارة في ترتيب الاقتصادات العالمية. لكن هذه المرة يبدو أن التغيير أسرع من الصين، وحتى من أميركا، ما يقلق فيشر وأقرانه.
الحياة اللندنية