ما الشعر إلا فن، وسيلته اللغة ويجمع بين جمال التصوير والموسيقى الأخاذة، والحركة واللون. يقول الآمدي: ليس الشعر “إلا حسن التأتي، وقرب المأخذ واختيار الكلام، ووضع الألفاظ في مواضعها، وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه المستعمل مثله، وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما استعيرت له، وغير منافرة لمعناه، فأن الكلام لا يكتسب البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف”. (1)
وهذا التعريف يخالف تعريف قدامة بن جعفر الذي قال عنه إنه الكلام الموزون المقفى الدال على معنى. فالنقاد اعتبروا تعريف قدامة ناقصاً وغير مكتمل، لأنه يشير إلى مظهر الشعر وليس إلى جوهره. ولا ريب إن هذا التعريف لا يلج إلى حقيقة الشعر، فعلا ،ولا يلامس قلبه.
ويرى ابن خلدون أنه من الضروري “أن يكون الشعر ضرباً من الكلام البليغ الذي تزيّنه الاستعارة والوصف الجميل، وأن يكون الشعر مفصّلاً بأجزاء متفقة في الوزن والرويّ وألا يبتعد عن أساليب العرب”. (2)
أما عبد القاهر الجرجاني فقد عرف الشعر بأنه: “علم من علوم العرب، يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحدٍ من أسبابه. فمن اجتمعت له هذه الخصال، فهو المحسن المبرّز، وبقدر نصيبه منه تكون مرتبته من الإحسان، ولست أفصلُ، في هذه القضية، بين القديم والمحدث، والجاهلي والمخضرم، والأعرابي والمولّد”. (3)
ونلاحظ إن الشاعر العربي، قديماً، ركز على سهولة العبارة، والابتعاد عن الألفاظ المهجورة والمعقدة. بمعنى الاعتناء باللفظ الجميل والمعنى البديع والاهتمام بالوزن والقافية.
ومع تطوّر الحياة تطوّر مفهوم الشعر وخاصة بالغرب، فلفظة الشعر مأخوذه من الشعور، وبالتالي فالشعر هو الذي يعبّر عن الشعور والعواطف، ويعمل على إثارتها بغضّ النظر إذا كان الشاعر يعبر فيه عن تجربة ذاتية خاصة، أو إذا تجاوز ذلك إلى مسألة أخرى متعلقة بالمجتمع أو العالم. ومشاعر الشاعر تسري عبر الأفكار إلى المتلقي من خلال التصوير والعبارات، وهذه العبارات توحي بالأفكار، ولا تشير إليها بشكل صريح. “فقوة الشعر تتمثل في الإيحاء بالأفكار عن طريق الصور، لا في التصريح بالأفكار المجرّدة ولا في المبالغة في وصفها. ومدار الإيحاء على التعبير عن التجربة ودقائقها، لا على تسمية ما تولده في النفس من عواطف، بل إن هذه التسمية تضعف من قيمة التعبير الفنية”. (4) لأنها تصل بالمشاعر إلى التجريد لا التصوير. فالشعر لغته وجدانية، ويرتكز على مشاعر الشاعر اتجاه نفسه وما يدور حوله ويتفاعل معه، ومن خلال فنّيات الشعر يكشف لنا أسرار النفس البشرية أو المجتمع أو العالم. فالشاعر،عبر شعره ،يبتغي التأمل في تجربته الشخصية، أو تجربة عامة لها علاقة بالمجتمع، لينقل لنا صورتها بشكل جميل، فالشعر هو “الخلق الأدبي المُوَقّع للشيء الجميل. ومرده إلى الشعور والذوق لا إلى الفكر. ذلك إن موضوع الذوق هو الجمال. والذوق لا شأن له بالواجب الذي هو موضوع الحاسة الخَلقية. ولكن الذوق مع ذلك يشرح مواطن الجمال في الواجب من حيث هو جميل، ويحمل على الرذيلة من حيث هي قبيحة”. (5)
لقد اختلف مفهوم الشعر وغاياته حسب المدارس الفكرية المتنوعة الذي ظهرت. فهذا
وردزورث يقول إن الشعر: “الشعر هو التعبير الخيالي لشعور عميق داخلي يكوّن موسيقى الأداء لأنه فيض عفويّ للعواطف القوية تنساب للشاعر بهدوء”. (6) فهو يرى أن الشعر يعبر عن العاطفة الصادقة، والإحساس العميق..يتمتع به البشر لأن صوره تنساب إلى القلب بخفة…ويثير العواطف ويبهجها. أما كولرج فعرف الشعر بأنه:
“أسلوب” لإثارة العواطف للوصول إلى سرور آني يتخذ الجمال وسيطا “لحقيقة”. (7) فالشعراء والنقاد في الغرب ركزوا على ما يثيره الشعر في خلجات النفس، وتأثيره الساحر على المتلقي بما يشعره بالسرور والفرح. يقول الناقد الإنكليزي هازلت: “الشعر تعبير عن الانطباع الطبيعي، لرد فعل في حادثة، يثير بحيويته حركة لا شعورية في الخيال، والعاطفة، ويَخْلق بالانسجام تغييراً في الطبيعة المعبرة عنه في اللغة والموسيقى”. (8)
ويضيف هازلت إن لغة الشعر هي لغة الخيال المُجَنّح والعواطف الملتهبة، التي تمنح المتعة أو الألم العميق.
فالشعر الغربي يهدف إلى العاطفة الصادقة المتأجّجة، والخيال السامي، وتصوير حقائق الحياة بأجمل الصور وأعذبها…
واهتمَّ بالعاطفة الإنسانية والإحساس المرهف، والموسيقى العذبة، لتخلد الشعر وتلذ النفس سماعه.
رمز البحر في شعر
عبد الناصر صالح
أنجز الشاعر عبد الناصر صالح سبع مجموعات شعرية، كلها تدور حول فلسطين
في ديوانه “خارطة للفرح” يهدي الشاعر قصائده إلى شهداء بيروت، الورود البيضاء في عالم أسود. ويستعين بالشاعر يوليوس فوتشيك، ليعبّر عن مضمون ديوانه، قال:
“لقد عشنا للفرح،
وخضنا النضال من أجل الفرح
وفي سبيل الفرح نموت”. (9)
في قصيدة مهداه إلى الشهيد ماجد أبو شرار “نُبوءاتُ الزّمن المُقبل…”، يتحدث فيها عن قسوة العالم، وبؤس الغربة، والموت الصعب، والضياع والتشرد الذي يطارد الفلسطيني، ورغم مرارة الحياة إلا أن الفلسطيني (أبو شرار) كانت عيناه ” عيناهُ تضجّان بأعراسِ الميلاد الثّوريةِ”. فهو الأديب المقاتل، الذي كتب بدمه، لذا كانت دماؤه نبوءة لاستمرار الثورة التي يطمح العدو، باغتياله، في وأدها، يقول:
” يرتفع عويل الساعات الأولى المسكونةُ،
حدّقت بزرقة ماء البحر
فأعياني التحديقُ
وأثقلني صمتي،