لا توجد منطقة في العالم تفعل فيها الحكومات ما تفعله بعض حكومات العالم العربي بشعوبها، ذلك أن من المعروف أن مهمة الحكومة في أي مكان في العالم هي خدمة مصالح الشعب عن طريق الحكم الرشيد، لكن بعض حكومات العالم العربي لا تتقيد بهذه القاعدة، وترى أن مهمتها هي خدمة مصالح الحكومة والسلطة حتى لو كانت تلك المصالح متعارضة مع مصالح الشعب الحقيقية، ونلحظ ذلك في سورية التي تقتل حكومتها أفراد شعبها بطريقة تفتقر إلى العقلانية والرحمة، ويتكرر المشهد نفسه في مصر والسودان دون أن تعرف حكومات هذه البلاد حلا لهذه المأساة المٍستمرة، وذلك ما يجعلنا نتوقف عند هذا المشهد لنرى ماذا حدث في العالم العربي منذ اندلاع ثورات الربيع العربي وكيفية خروج أهداف الشعوب عن غاياتها الحقيقية .
وكما هو معلوم فإن البداية كانت في شهر ديسمبر من عام 2010وفي بلد لم يسهم كثيرا في رفع شعارات التغيير وهو تونس التي كان تحرك الشعب فيها منطقيا ويقدم صورة حقيقية لواقع العالم العربي كله، ذلك أن الدوافع التي كانت تكمن وراء تحرك الشعب التونسي هي البطالة والتضخم والفساد إضافة إلى غياب الحريات العامة، إذ كانت تونس في تلك الفترة تعيش فترة هدوء حالة حكم ظل أكثر من عقدين من الزمان لا تواجهه حركات احتجاج بمثل تلك القوة التي اندلعت بعد استشهاد البوعزيزي، وذلك ما جعل النظام يخرج عن طوره ويواجه الجماهير بالعنف والقوة، وهو ما أِشعل البلاد بالثورة التي كان وقودها ‘البوعزيزي’ الذي ضحى بحياته من أجل المبادىء التي عبر عنها مناهضو النظام، ولا نقول إن الثورة التونسية حققت أهدافها بإسقاط حكم ‘زين العابدين بن على’ لأن البلاد مازالت تعيش حالة شد وجذب بين قوى تعتقد أنها صاحبة الحق في ميراث الحكم وقوى لا ترى ذلك، ومع هذا فقد انتقلت روح الثورة إلى أماكن أخرى، وعند ذلك أطلق عليها ثورة الربيع العربي التي لم يتوقع أحد وصولها بمثل تلك السرعة إلى مصر المعروفة – حتى ذلك الوقت- بهدوء شعبها، غير أن المفاجأة جاءت أكبر مما تصورها الكثيرون، خاصة أن قطاعات كبيرة من المصريين كانت تحس وتعرف ما يجري في البلاد من فساد في وقت يعاني فيه الفقراء من عدم وصول خيرات البلاد إليهم، وهكذا تجمع الناِشطون من مختلف قطاعات الشعب والذين اٍستطاعوا أن يحركوا معظم أفراد الِشعب من أجل إسقاط النظام القائم بكونه فشل في تحقيق مطالبهم ، وهكذا استطاعت الحركة الاحتجاجية في شهر فبراير من عام 2011 أن تسقط نظام مبارك لتتولى السيطرة على النظام سلطة انتقالية بقيادة الفريق ‘محمد حسين طنطاوي’ بهدف تمكين البلاد من اختيار قيادتها الجديدة، وقد جاءت هذه السلطة بعد انتخابات مايو 2012 حيث تولى الحكم الرئيس محمد مرسي الممثل لحزب الحرية والعدالة الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وبعد عام واحد من حكم مرسي خرج الآلاف من أبناء الشعب في مظاهرات عارمة تطالب باستقالته. وفي مواجهة ذلك أقام مريدو مرسي معسكرا أمام جامع ‘رابعة العدوية’ وهو إجراء جعل الفريق ‘عبد الفتاح السيسي’ يصدر تحذيره للرئيس مرسي، غير أن احتجاجات أنصار مرسي استمرت، وذلك ما جعل الجيش يعود من جديد إلى المشهد بحجة إجراء انتخابات جديدة خلال عام من سيطرته على السلطة وإبعاد الرئيس مرسي عن منصبه وتعيين ‘عدلي منصور’ في مكانه كرئيس لنظام في مرحلة المخاض، وذلك ما أشعل ثورة تبدو في ظاهرها وكأنها صراع بين القوى الديموقراطية وقوى الجيش الدكتاتورية، ولكنها في حقيقتها صراع بين تيار ديني معروفة أهدافه وتوجهاته وتيار عسكري يحتمي تحت عباءة خاصة ولو لفترة مؤقتة، وهي عباءة تيارات مدنية تناهض قيام حكم على أساس ديني، وقد أدى الخلاف بين التيارين إلى صراعات كانت نتيجتها وضع الآلاف في السجون وقتل الآلاف في الشوارع دون أن تتحدد المسؤولية على نحو واضح، وما حدث ويحدث في مصر تكرر في السودان بذريعة الاحتجاجات على غلاء المعيشة، لكن الصراع في الباطن كان صراعا على أسلوب الحكم في نظر الكثيرين.
ويقول كثير من المراقبين وخاصة في العالم الغربي إن ما يجري في العالم العربي ليس في الحقيقة صراعا من أجل الديموقراطية والحكم الرشيد بكون هذه أمورا لم يحن وقتها بعد لأن الصراعات في العالم العربي تقوم على أسس ثقافية وقبلية وطائفية، ويقدم هؤلاء نموذجا لما يجري في العراق، إذ التصويت في الانتخابات العراقية لا يتم على أسس ديموقراطية بل يتم على أسس طائفية، حيث الأكراد يصوتون للأكراد والسنة يصوتون للسنة والشيعة يصوتون للشيعة، وبالتالي لا تسفر الانتخابات – في نهاية الأمر- عن قادة يحققون مطالب الشعب بل تسفر عن زعامات طائفية تواصل عملية الصراع التي تعطل مسيرة المجتمع وتكرس حالة الشقاق ذات الأثر السلبي في معظم المجتمعات العربية، ولا يختلف الأردن كثيرا عن هذا المسار، ذلك أن الانتخابات هناك لا تسفر عن قادة شعبيين بل تسفر عن قادة قبليين يكرسون الواقع القبلي الذي تعاني منه البلاد، وذلك ما جعل بعض القادة في العالم العربي يقولون إن الطريق إلى الديموقراطية يبدو طويلا، ولا يمكن أن يتحقق إلا بعد أن تتحقق المصالح الاقتصادية للناس وهي مصالح لا يبدو أنها ستعالج في وقت قريب بسبب الفساد الاقتصادي وسوء أنظمة الحكم والاتجاه إلى ترحيل ثروة البلاد إلى الخارج وإيداعها في المصارف الأجنبية بحيث تخرج من الدورة الاقتصادية الوطنية .
وإذا نظرنا إلى هذا الواقع في مجمله وجدنا أنه واقع غير سوي، و ليس ذلك كله بسبب الاختلافات السياسية كما هو الشأن في البلاد المتقدمة، بل بسبب واقع ثقافي يعاني منه العالم العربي وهو واقع يغذيه النظام التعليمي المدرسي الذي يعلم التلاميذ قيما تصبح في نهاية الأمر وسيلة لاستمرار الصراع بين أفراد المجتمع، ويمكن أن ينظر إلى هذا الواقع الثقافي في بلد مثل السودان حيث أدت الاختلافات العرقية والإثنية إلى انفصال جنوب السودان، وحالت دون قيام الوحدة بين مصر والسودان وتؤجج هذه الاختلافات الصراع في دارفور كما توجد تنافرا بين قبائل الشمال التي يرجع بعضها أصوله إلى أنساب شريفة من أجل التمايز مع الآخرين . ويبدو من كل ذلك أن الصراع الحقيقي في العالم العربي لا يأخذ طريقه في الواقع السياسي من أجل تغييره، بل يتركز حول مفهومات طائفية وعرقية ومذهبية لا يمكن حلها أو تجاوزها إلا بواسطة التعليم الرشيد الذي يخاطب القيم والعقل، وبدون هذا التوجه فإن الخبر الوحيد الذي سيلازم سمع المواطن العربي هو خبر القتل والدماء التي تروح هدرا كل يوم، بحيث لا يعرف أحد ماذا يمكن أن يحقق انفجار بسيارة ملغومة في مكان يزدحم بالناس بينما هو انفجار غير موجه نحو فرد أو جماعة بعينها بل هو موجه نحو أناس أبرياء قد لا يكون لهم خلاف مع مدبر الانفجار، فماذا إذن يمكن أن يحقق مثل هذا الانفجار ؟.
مؤدى قولنا أن المشكلة الحقيقية التي يواجهها العالم العربي اليوم هي مشكلة ثقافية وبدون تجاوز هذه المشكلة السائدة فلا يمكن أن يطور العالم العربي واقعه السياسي ولن يكون قادرا على تحقيق النمو الاقتصادي الذي يحقق مصالح الناس جميعا ويجعلهم غير متجهين نحو الصراع الذي لا مبرر له في معظم الأحوال، وهنا لا بد أن نعترف بالصعوبات الأساسية التي تواجه ما ندعو إليه، ذلك أن الصراع في جانبه الديني عند المواجهة مع التيارات المختلفة مع هذا التوجه يبرز وكأن التيارات المناهضة تكرس موقفا ضد الدين، وهذا فهم غير صحيح وغير مبرر، بكون الذين يعارضون التيارات الدينية لا يقلون في ولائهم للدين عن التيارات الدينية، غير أنه حين يكون الهدف سياسيا فإن مثل هذا الصراع يبدو وكأنه لا محل له من الإعراب.
القدس العربي