نعم، صحيح أنه لم يكن هناك تنظيم “قاعدة” في العراق عندما تولى جورج دبليو بوش منصبه الرئاسي. لكن من الصحيح بالمقدار نفسه أنها لم تكن هناك “قاعدة” متبقية في العراق ابتداء عندما تولى باراك أوباما المنصب أيضاً -الأمر الذي يجعل بوش مسؤولاً عن الكلف الرهيبة التي ترتب من أجل إلحاق الهزيمة بحرب 2003-09 الجهادية التي تسبب بها غزوه للعراق. ويمكننا أن نتجادل إلى الأبد حول ما إذا كانت تلك الكلف تستحق ما أنفقت لأجله، لكن ما لا يمكن الجدال فيه هو مسؤولية أوباما عن عودة التمرد الإسلامي الذي كان قد استؤصل في الوقت الذي أصبح فيه رئيساً.
بحلول العام 2009، لم يكن تنظيم القاعدة في العراق قد دُمر فقط، وإنما أهين أيضاً إثر زيادة عديد القوات الأميركية وصحوات الأنبار. وهنا ألحقنا الضرر بالسنة، الذين خاضوا قتالاً شرساً ضد الأميركيين الذين وضعوا نهاية لثمانين عاماً من الهيمنة السنية، ثم غيروا التحالفات وانضموا إلى الغازي الكافر في سحق، بل في اقتلاع نظرائهم السنة في تنظيم “القاعدة” من العراق.
في الوقت نفسه، حول رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي الجيش العراقي ضد الميليشيات الشيعية المتطرفة في البصرة، امتداداً على طول الطريق شمالاً إلى بغداد. وماذا كانت النتيجة؟ “عراق مستقر، ذو سيادة، ومعتمد على نفسه”. ليس هذا بطبيعة الحال سوى بوش يهنئ نفسه. وهو أوباما أيضاً حين يصف في كانون الأول (ديسمبر) 2011 ذلك العراق الذي كنا نتركه وراءنا، ثم يصف ذلك بأنه “إنجاز غير عادي”.
وهو الذي ذهب أوباما إلى التخلي عنه. لقد كسب ديفيد بترايوس الحرب. وكانت مهمة أوباما الوحيدة هي التوصل إلى اتفاق حول وضع القوات من أجل تعزيز المكاسب. وباعتراف أوباما نفسه -في سياق القضية التي يصوغها الآن من أجل التوصل إلى اتفاق حول وضع القوات مع أفغانستان- فإن إبرام مثل هذه الاتفاقيات هو أمر ضروري “لأننا نريد، بعد كل التضحيات التي قدمناها، أن نحافظ على المكاسب” التي تحققت من خلال الحرب.
وهو ما جعل من إخفاقه في القيام بذلك في العراق أمراً بالغ الكارثية. كان عذره هو عدم قدرته على ضمان الحماية والحصانة للجنود الأميركيين. هراء. كان بوش قد تمكن من ابتكار تسوية في اتفاقه الخاص لوضع القوات في العام 2008، كما كنا قد فعلنا ذلك مع الحلفاء في كل مكان. وكانت المشكلة الوحيدة هي تصميم أوباما على “إنهاء الحرب”. كانت لديه ثلاث سنوات للتفاوض من أجل صفقة، لكنه لم يبدأ التفاوض حتى تبقت مجرد بضعة أشهر على حلول الموعد الانتهائي للانسحاب.
عرض أوباما أن يترك 3.000 إلى 5.000 جندي، وهو عدد سخيف جدير بالسخرية. وقال قادة جيش الولايات المتحدة إنهم في حاجة إلى 20.000 جندي في العراق. (لدينا 28.500 جندي في كوريا الجنوبية، و38.000 في اليابان، حتى هذا اليوم). وسوف تنفق مثل هذه الوحدة العسكرية الصغيرة التي عرضها أوباما كل وقتها في حماية نفسها فقط. ويعرف العراقيون العرض غير الجدي عندما يرون واحداً: لماذا يتحملون عبئاً سياسياً داخلياً من استمرار وجود أميركي في البلد إذا كان هذا الوجود رمزياً فقط؟
علاوة على ذلك، وكما أشار المؤرخ ماكس بوت، أصر أوباما على التصديق البرلماني العراقي على الموضوع، الأمر الذي قال العراقيون إنه ليس أمراً مستحيلاً فقط، وإنما لا لزوم له أيضاً. وهكذا، أمر أوباما بالانسحاب الكامل. ومعه اختفى نفوذ الولايات المتحدة وقدرتها على كبح جماح الطائفية، والتوسط بين الفصائل، وتقديم كل من المعلومات الاستخبارية والمشورة التكتيكية للقوات العراقية التي تعمل الآن من تلقاء نفسها.
كانت النتيجة قابلة للتنبؤ بها. ومتوقعة. فبين عشية وضحاها، أصبحت إيران من خلال تعزيزها للتفوق الشيعي صاحبة النفوذ المهيمن في العراق. وفي اليوم التالي الذي أعقب رحيل الولايات المتحدة، أمر المالكي باعتقال نائب الرئيس السني. وقام بقطع التمويل عن “أبناء العراق”، منظمة السنة الذين حاربوا معنا ضد تنظيم القاعدة. وبعد ذلك، قام باضطهاد واستبعاد السنة، حتى أنهم أصبحوا على استعداد للترحيب بعودة تنظيم القاعدة في العراق -التي قامت بتغيير علامتها التجارية في ملاذها السوري لتكون: الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش”- باعتبارها أهون الشرين. ومن هنا جاءت سيطرة “داعش” السريعة حد الإدهاش على الموصل وتكريت والكثير من الأجزاء السنية من العراق.
لكن الانبعاث الجهادي يجيء نتيجة لتخلي أوباما عن العراق بطريقتين: خلق فراغ، ليس في العراق وحسب، وإنما في سورية أيضاً. وقد تردد أوباما واكتفى بالخطابة خلال الأيام الأولى للثورة السورية، قبل أن يصل الجهاديون، عندما كانت الثورة العلمانية تتقدم بشكل منهجي على النظام في دمشق. وقام حزب الله، وإيران وروسيا بمساعدة النظام على البقاء. وفي الأثناء، تطور جيب جهادي (بما فيه بقايا تنظيم القاعدة الذي كان قد هُزم ذات مرة في العراق) في أجزاء واسعة من شمال وشرق سورية. وقد ازدهر هؤلاء على المساعدات الخارجية الهائلة، بينما انهار الثوريون العلمانيون وهم ينتظرون المساعدات الأميركية بلا طائل.
لما وجد نفسه في مواجهة دولة جهادية بحكم الأمر الواقع، والتي تغطي كلا البلدين، لم يعد لدى أوباما المأخوذ الآن بالمفاجأة الكثير من الخيار سوى أن يحاول بين عشية وضحاها، من الصفر وبشكل مصغر، إعادة خلق ذلك النوع من الوجود الأميركي -تقديم المعلومات الاستخباراتية والمشورة التكتيكية، بل وربما حتى الدعم الجوي- الذي كان قد تبرأ منه قبل ثلاث سنوات.
يشكل إعلان أوباما يوم الخميس عن إرسال 300 من المستشارين العسكريين بداية لإعادة الخلق تلك -في بديل شاحب لما كان ينبغي أن يكون موجوداً قبل وقت طويل، لكنه الخيار الوحيد الذي تركه أوباما لنفسه. سوف يكون من الصعب استعادة النفوذ والتأثير اللذين تخلى عنهما بانسحابه الكامل من العراق. لكنها فرصتنا الوحيدة للإبقاء على العراق خارج أيدي الجهاديين السنة من الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” والجهاديين الشيعة من طهران.
الغد الأردنية