يبدو أن عرض الغضب والقلق والعدوانية الذي قدح زناده اختطاف ثلاثة شباب من مستوطنة يهودية غير شرعية في الضفة الغربية، مصحوب بما يقترب من أن يكون إنكاراً كلياً لأي علاقة شرعية بين ممارسات الحكومة (الاحتلال) وردود الفعل الفلسطينية (الاختطاف).
بغض النظر عما يفعله الإسرائيليون في حق الفلسطينيين، فإن الإسرائيليين يصرون على القول إن تلك الممارسات مبررة. وبغض النظر عن الكيفية التي يتجلى من خلالها رد الفعل الفلسطيني، يصر الإسرائيليون على القول إن تلك الممارسات غير مبررة أبداً. ووفق المعايير الموضوعية، فإن هذا الموقف الإسرائيلي يقف على حافة التصنيف في باب الأمراض.
ثمة الكثير من المآسي التي تترتب عن عدم ملاحظة هذه الصلة. وقد أصبحت مأساة ضحايا الاختطاف اليهود الثلاثة هي التي تحتل الأولوية في الضمير الإسرائيلي وفي وعي الإعلام الغربي على حد سواء، مصحوبة بالتكهنات بأنه تم أخذ الشبان اليهود الثلاثة ليكونوا رهائن تمكن مبادلتهم بسجناء فلسطينيين.
كما لو كان ذلك لإرسال رسالة تقول إن حكومة بنيامين نتنياهو لن تلعب بتلك الطريقة، عمدت القوات الإسرائيلية إلى اعتقال مئات الفلسطينيين، بمن فيهم بعض الذين كان قد أفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى مع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. وفي الأثناء، قام الجيش الإسرائيلي بتدمير الممتلكات الفلسطينية بالجملة، وأفضت حملته إلى إصابة العشرات بجروح -وحتى إلى مقتل عدد كبير من الفلسطينيين أثناء عملية البحث عن الضحايا المختطفين.
لكن كل هذا الجنون الذي من شأنه أن يعمق الكراهية الفلسطينية للإسرائيليين وحسب، قد يكون مستنداً إلى افتراض إسرائيلي زائف. ومن المرجح تماماً أن لا يكون هذا الاختطاف قد تم للتمهيد لعملية تبادل أسرى مستقبلية. ومن الواضح تماماً أنه كان عملاً انتهازياً من أجل الانتقام، من رد الضربة ضد نفس نوع القمع الذي تمارسه حكومة نتنياهو مرة أخرى.
لا يستطيع العديد من الصهاينة استكشاف عمق حقيقة أن هناك، حرفياً، ملايين الفلسطينيين الذين يرغبون في الانتقام من الممارسات الإسرائيلية المسيئة. ويشكل هذا العمى جزءاً من إنكارهم لحقيقة أن ممارساتهم الخاصة هي التي تفسر الكثير من ردود الفعل الفلسطينية. ويتعزز هذا الإنكار من خلال الخديعة المتمثلة في وصف كل الفلسطينيين تقريباً بأنهم “إرهابيون”.
ثمة مأساة أخرى تحوز على اهتمام إعلامي أقل بكثير، والتي تتمثل في مأساة الخطف الجمعي لشعب فلسطين. هذه هي العبارة التي استخدمها أفراهام بورغ، الصهيوني المضلل الذي كما يبدو يستبدل بوتيرة بطيئة، وإنما واثقة، أيديولوجيته القديمة باشمئزاز معاصر. ويقول بورغ إن “كل المجتمع الفلسطيني هو مجتمع مختطف… العديد من الإسرائيليين الذين أدوا (خدمات جليلة) في الجيش… كانوا قد دخلوا بيت عائلة فلسطينية في منتصف الليل بشكل مفاجئ، واستخدموا العنف، واعتقلوا الوالد أو الأخ أو العم ببساطة… ذلك اختطاف، وهو يحدث كل يوم”.
لا شك أن بعض الإسرائيليين يمتعضون بعمق من حقيقة أن معظم العالم يوافق بورغ على هذا الرأي. وبشكل متزايد، يعرف الناس في الخارج أن الإسرائيليين خلقوا سياق هذا الاختطاف الأخير. ولم يعد هؤلاء الناس في كل أرجاء العالم يصدقون التبريرات الصهيونية للسلوك الإسرائيلي. والنتيجة هي أن الإسرائيليين ينعزلون بازدياد ليعيشوا في عالم مشوه خاص بهم.
على سبيل المثال، هناك افتتاحية في صحيفة “جيروساليم بوست” تستنكر منظمات حقوق الإنسان الأساسية في العالم، وتصفها بأنها منافقة لأنها لم تعرب عن “غضبة فورية، وتطالب بإجراء، بل وحتى تتظاهر في الأمم المتحدة للمطالبة بالإفراج الفوري” عن “المراهقين الإسرائيليين الثلاثة.”
للأسف، لا تستطيع منظمات حقوق الإنسان الرئيسية، التي أعربت في الحقيقة عن عدم إقرارها للاختطاف، فعل ما ترغب الجيروساليم بوست في فعله لأنها تفهم الدرجة التي ساهمت فيها السياسات الإسرائيلية في صناعة هذه المآسي. ومن شأن هذه الحقيقة أن تصعب إلى حد كبير أن يشعر العديد من الناس بالشعور الطبيعي الذي يشعرون به في حالات أخرى حيال الورطة الشخصية للمراهقين الثلاثة، الشعور الذي يصر الإسرائيليون عليه.
قد يساعد ذلك في تفسير الحنق الذي يشعر به أم جيه روزنبيرغ، المعلق الليبرالي الأميركي الصهيوني الذي يضطلع راهناً بمهمة إدانة الداعمين الأميركيين للقضية الفلسطينية لما يصفه بأنه افتقارهم للإنسانية عندما يتعلق الأمر بمصير الإسرائيليين المختطفين. ويحاول روزنبيرغ صياغة اعتراضه بمصطلحات أخلاقية مطلقة:
“لا تبرير لإلحاق الضرر بأولاد (أعمار الضحايا هي 19 و16 و16 عاماً) بغض النظر عما يكون السبب. كلا، إن الاختبار الذي تتعرض له إنسانيتك هو ما إذا كنت تدين إلحاق الضرر بأولاد من دون محذور أو أشباه تبريرات. وإذا لم تفعل كذلك، فما عليك سوى أن تخرس”.
المثالية تدمرها الواقعية
ربما يجلب مطلب روزنبيرغ الفظ إلى السطح مأساة أخرى مع ذلك، والمتأصلة في الحالة الراهنة -مأساة الإصرار على مثاليات أخلاقية، والتي بينما تظل مثار إعجاب، فإنها لا تكون قابلة للتحقيق في ظل الظروف الراهنة.
حتى نختصر: ثمة عالم كما نقول إنه يجب أن يكون (المثالي)، وثمة عالم كما هو فعلاً (المشكل في جزئه الضخم بممارسة الدولة). ويسعى حكم القانون ومعظم مبادئ الأخلاق إلى نقل العالم في الاتجاه المثالي. ومع ذلك، إذا طالبت الدولة بتعاطف أولئك الذين يأخذون المثالي على محمل الجد، فسيكون عليها عندئذٍ أن تظهر السلوك القومي الذي لا يتناقض عن قصد مع المثالي.
وهكذا، وفي الحالة الافتراضية لوجود إسرائيل تتحرك في اتجاه مجتمع شمولي مستند إلى سلوك ديمقراطي حقيقي، سيكون علينا أن لا ندين هذا الاختطاف وحسب، وإنما كل الحالات السابقة حيث عانى الإسرائيليون -رجالا ونساء وأولاداً- وماتوا بسبب العنف المجتمعي. ومع ذلك، لا وجود لإسرائيل من هذا القبيل. وإذا كان ثمة شيء، فإن لدينا إسرائيل الحقيقية التي تتحرك مبتعدة عن الممارسة الديمقراطية الأصلية في اتجاه وضع دولة نظام عنصري (أبارتيد) بشكل حصري.
ولكن، ماذا عن الأولاد؟ بعد كل شيء، الأولاد “لا يتوافرون على تفويض”، ولذلك يجب عدم تحميلهم المسؤولية عن الظروف التي خلقها الكبار. لكنه ينبغي القول مرة أخرى بأن الصهاينة لا يستطيعون المطالبة بهذا الاستثناء بينما يقوم ضباط أمن الدولة الإسرائيلية باعتقال وسجن الأولاد الفلسطينيين. هذه حقيقة محزنة من حقائق العالم كما هو فعلاً: إن المعايير المزدوجة تجعل المثاليات مستحيلة التحقق.
قد تكون هذه الورطة الأخلاقية مأساوية، لكنها متلازمة تماماً مع الكيفية التي يتصرف بها الناس العاديون، وهي التي تحدد كيف تكون ردود أفعالهم في كل الأوقات. ولا يتصرف الناس عادة بتعاطف مع المستأسدين والأشخاص الأنانيين بشكل صريح، أو أولئك الذين يهددون جيرانهم. وبالتالي، فإن مجموعات بأكملها ممن يدعمون هذا السلوك -إما بسبب الشعور المشوه بالتاريخ، أو التعليم غير اللائق للأيديولوجية الدينية، أو ببساطة لأنهم مبرمجون لـ “اتباع الأوامر”- لا يستطيعون التعاطف مع أي من الطرفين.
يستطيع الصهاينة الشكوى من عدم عدالة هذا الوضع. لكن الشيء الوحيد الذي يحدث فارقاً يكمن في تغيير سلوكهم الخاص.
لورنس دافيدسون
*أستاد التاريخ في جامعة وست تشيستر في بنسلفانيا. وهو مؤلف كتاب: “مؤسسة السياسة الخارجية: خصخصة المصلحة القومية الأميركية”. و”فلسطين أميركا: المشاعر الشعبية والرسمية من بلفور إلى الدولة الإسرائيلية”. و”الأصولية الإسلامية”.
الغد الأردنية