بقلم:ألكس مينتس وشاؤول شاي(*) ـ ترجمته عن العبرية: يولا البطل ـ
صاغ عقيدة إسرائيل الأمنية في مطلع خمسينيات القرن الماضي رئيس الحكومة ووزير الدفاع آنذاك دافيد بن غوريون. لم تتم بلورة هذه العقيدة في تعاليم منظمة متماسكة وملزمة، وإنما بقيت بمثابة نظرية اعتمدت مبادئها الأساسية من قبل المؤسسة الأمنية – السياسية لدولة إسرائيل، ولم تتغير على امتداد سنوات وجودها.
وتنطلق العقيدة الأمنية كما عرضها بن غوريون من أن هناك عدم تكافؤ أساسي بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية المحيطة بها، على صعيد المعطيات الجغرافية، والديمغرافية، والإمكانات الاقتصادية. نتيجة لذلك، يتوجب على إسرائيل، بحسب هذه العقيدة، إقناع الدول العربية بالتسليم بوجودها. فبالإضافة إلى السعي للسلام، على إسرائيل (عبر تحقيق انتصارات متتالية تؤدي إلى تيئيس القيادات العربية) أن تدفع الطرف العربي إلى الاستنتاج أنه لا سبيل عملي لتدمير دولة إسرائيل.
محاولات سابقة لتحديث عقيدة إسرائيل الأمنية
منذ بلورة العقيدة الأمنية في خمسينيات القرن الماضي، جرت عدة محاولات لتحديثها. وهكذا نشر الجنرال يسرائيل طال في العام 1998 كتابه: “الأمن القومي: قلّة مقابل كثرة”، الذي عرض فيه تطور العقيدة الأمنية الإسرائيلية وأشار إلى التعديلات المطلوبة، التي كانت تلائم ظروف تسعينيات القرن الماضي.
وفي العام 1998، بادر وزير الدفاع اسحاق مردخاي إلى تشكيل ورشة عمل واسعة النطاق في هيئة الأركان مهمتها البحث في تحديث العقيدة الأمنية، فشُكلت عدة طواقم، وكُلّف اللواء دافيد عبري بتنسيق أعمالها، ثم جُمعت مُخرجات المشروع في خمسة مجلدات، ولكن هذه الاستنتاجات لم تُعرض على الحكومة الأمنية المصغرة ولم تعتمد كعقيدة أمنية قومية.
وقدم الوزير السابق دان مريدور في العام 2006 إلى وزير الدفاع آنذاك، شاؤول موفاز، تقرير لجنة تعديل العقيدة الأمنية الإسرائيلية. وقد شارك في أعمال اللجنة نحو 20 خبيراً في مجالات متعددة، ومن بينهم اللواء غيورا أيلاند الذي أصبح في ما بعد رئيساً لمجلس الأمن القومي، بالإضافة إلى قادة الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية، وباحثين أكاديميين، ومسؤولين كبار من وزارة الخارجية والصناعات الأمنية. وكان من أهم استنتاجات اللجنة إضافة مكوّن الدفاع إلى ثلاثية ركائز العقيدة الأمنية لدولة إسرائيل.
وبحسب استنتاجات اللجنة، ينقل الإرهاب والصواريخ بعيدة المدى الحربَ من ميدان القتال المباشر إلى المواطنين في الجبهة الداخلية، الأمر الذي يستوجب تطوير ردّ يتمثل في الدفاع عن السكان المدنيين والبنى التحتية القومية. كما يوصي تقرير اللجنة بإعادة درس مدى ملاءمة مفاهيم الردع، والإنذار الاستراتيجي، والحسم، في مواجهة لاعبين غير دولتيين على غرار التنظيمات “الإرهابية” كـ”حزب الله” وحركة “حماس” وغيرها. كما أوصت اللجنة بضرورة استنباط ردّ مناسب دفاعاً عن أنظمة الحواسيب القومية (ضد الهجمات السبرانية).
تبنى وزير الدفاع آنذاك شاؤول موفاز توصيات اللجنة بمجملها، فأوصى بأن يكون مخطط بناء قوة الجيش الإسرائيلي مرتكزاً على استنتاجات اللجنة. وعُرضت توصيات اللجنة على الحكومة الأمنية المصغرة، لكنها لم تقر وتعتمد كعقيدة أمنية لدولة إسرائيل.
وفي العام 2013، نشر اللواء (في الاحتياط) البروفسور يتسحاق بن يسرائيل، تصوّره لعقيدة إسرائيل الأمنية. وقرر بن يسرائيل أن التاريخ الأمني لإسرائيل ينقسم إلى ثلاث فترات كان لكل منها عقيدة أمنية مختلفة:
– “بدأت الفترة الأولى فور انتهاء الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني لأرض إسرائيل”. كانت المواجهة في تلك المرحلة مواجهة محدودة، و”اتخذت طابع خصام جيران متنازعين على مصادر المياه، وعلى تقسيم الأراضي وما إليه”.
– بدأت الفترة الثانية، بحسب بن يسرائيل، عشية إعلان الدولة واستمرت حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين. وكان التهديد الرئيسي في تلك الفترة يتمثل في خطر غزو جيوش دول الجوار العربية حدود دولة إسرائيل، وخطر مواجهة بين دول.
– وبدأ يتبلور في مطلع تسعينيات القرن العشرين، بحسب قول بن يسرائيل، مفهوم أمني ثالث، لم يعد يتمثل في غزو جيوش [the most relevant threat] يعتبر أن “التهديد الأهم المحدق بها أجنبية، وإنما في تنظيمات ومجموعات تحت – دولتية (كحركة حماس في قطاع غزة وحزب الله في لبنان)”، وأنه يشمل مواجهات محدودة بين إسرائيل وهذه التنظيمات وغيرها.
وقرر بن يسرائيل أن مقالة زئيف جابوتنسكي “الجدار الحديدي”، التي نشرت في روسيا عام 1923، صكت المبدأ القائل إنه ينبغي حمل الدول العربية على التسليم بأنه لا يمكن القضاء على الوجود اليهودي في أرض إسرائيل بالقوة، وهو المبدأ الذي تبنّاه لاحقاً بن غوريون، فأضحى أحد ركائز العقيدة الأمنية.
ضرورة تحديث مفهوم الأمن القومي
إن العولمة، والثورات التكنولوجية في مجالات الاتصالات، والسايبر، والفضاء، والتغيرات الجيوسياسية الإقليمية والدولية، وتبدّل طبيعية الحروب، والمستجدات في المجتمع الإسرائيلي، تستدعي إعادة درس العقيدة الأمنية وملاءمتها لظروف الواقع الديناميكي للقرن الواحد والعشرين. وترتدي ملاءمة العقيدة الأمنية لأهداف الدولة، ولبيئتها الإقليمية والاستراتيجية المتغيرة، أهمية خاصة.
التغيرات الجيوسياسية
الاضطرابات الإقليمية والتغيرات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط
لقد تبدّل التركيب الجيوسياسي لدول منطقة الشرق الأوسط بشكل دراماتيكي خلال العقود الأخيرة. وأخذت المنطقة تتسم اعتباراً من العام2011 ، في أعقاب ثورات “الربيع العربي”، بعدم الاستقرار وبأزمات لا تزال في ذروتها. ويخيّم عدم اليقين على مستقبل المنطقة. والتغيرات التي شهدناها في الماضي والتي نشهدها في الحاضر تستدعي إعادة تفحص العقيدة الأمنية التي تأسست على واقع جيوسياسي مختلف جذرياً.
ويمكن الإشارة إلى بعض الاتجاهات الرئيسية التي تميّز حالياً منطقة الشرق الأوسط:
• في أعقاب ثورات الربيع العربي، بدأ يتزعزع مفهوم الدولة القطرية العربية، الذي كان أساس النظام الإقليمي؛ وتشهد بعض دول المنطقة حالات تفكك، وهي آخذة بالتحول إلى دول فاشلة.
• في الدول غير المتجانسة لجهة تركيبة سكانها، هناك احتمال تفكك من الداخل وظهور جيوب مستقلة ذاتياً (على أساس جغرافي، أو طائفي، أو ثقافي، أو وظيفي). وتسيطر على هذه الجيوب عناصر متشددة غالباً تفرض سلطتها ونفوذها بقوة السلاح وجوّ من الرعب.
• من جراء ضعف الدول العربية وقواتها الأمنية، يبرز صعود لاعبين لادولتيين في المنطقة، ومعظمهم ذو توجه إسلامي متطرف ومعادٍ لدولة إسرائيل.
• تشكل التنظيمات الإرهابية الإسلامية تحدياً رئيسياً لقوات الأمن في بعض دول المنطقة: تحدياً للجيش المصري في شبه جزيرة سيناء، ولجيش الأسد في سوريا، وللجيش العراقي، والجيش اليمني، وغيرها.
• إسرائيل محاطة اليوم بلاعبين لادولتيين: حزب الله المسيطر في جنوب لبنان، مجموعات الثوار السورية التي تشمل تنظيمات جهادية متواجدة على مقربة من حدود هضبة الجولان، السلطة الفلسطينية في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، سلطة حماس في قطاع غزة، وتنظيمات جهادية في شبه جزيرة سيناء.
التحالفات الإقليمية
إن تهديدات وتحديّات الوضع الإقليمي المضطرب، وأزمة العلاقة مع تركيا، والواقع المعقد الذي أعقب أحداث “الربيع العربي”، تحتّم على إسرائيل محاولة تعيين الفرص الجديدة لخلق تحالفات مع دول من داخل منطقة الشرق الأوسط ومن خارجها، في البلقان وفي شرق أفريقيا.
يمكن الإشارة إلى ثلاث دوائر اهتمام استراتيجية لإسرائيل بقصد تدشين تحالفات رسمية وغير رسمية:
• شرق حوض البحر الأبيض المتوسط – اليونان وقبرص، ودول أخرى في البلقان.
• الشرق الأوسط – المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج (يمكن أن تشكل مبادرة الجامعة العربية أساساً للتعاون الإقليمي).
• شرق إفريقيا – إثيوبيا، كينيا، جنوب السودان، أوغندا (الدول المسيحية في شرق أفريقيا، التي تخشى تهديد الإسلام الراديكالي).
تحول إيران إلى دولة نووية
تسعى إيران، بحسب تصريحات زعمائها، إلى فرض هيمنتها الإقليمية على منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بمجمله. ويهدف برنامج إيران النووي إلى دعم هذه التطلعات. وينطوي تحول إيران إلى دولة نووية على تهديد وجودي وعلى تغيير الميزان الاستراتيجي الإقليمي (مع إمكانية بدء سباق تسلح نووي يشمل دولاً أخرى في المنطقة).
حتى قبل أن تتمكن إيران من أن ترسل في اتجاه إسرائيل صاروخاً باليستياً يحمل رأساً نووياً، وأن تشكل تهديداً وجودياً بالنسبة لإسرائيل، يجوز الافتراض أنه بقدر ما تحرز إيران تقدماً في برنامجها النووي العسكري، بقدر ما سيمنح ذلك حرية حركة أكبر للتنظيمات الإرهابية المدعومة من إيران، التي ستشعر أنها محمية بواسطة قدرات إيران النووية المتنامية. وقد توجه إيران تهديدات ضد نشاط الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة أو لبنان، بهدف التأثير على اعتبارات القيادة السياسية في إسرائيل.
النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وعملية السلام
حدد بن غوريون منذ العام 1953 هدفاً استراتيجياً أعلى لدولة إسرائيل: السلام مع دول الجوار العربية. فللنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني مفاعيل سلبية سواء في الساحة الداخلية أو بالنسبة لصورة إسرائيل في الساحة الدولية. ومن ضمن منظور بعيد المدى، يجسّد هذا النزاع تهديداً للهوية اليهودية – الديمقراطية لدولة إسرائيل. فالإرهاب الذي هو تحصيل حاصل استمرار النزاع يشكل تحدياً أمنياً يقتضي رداً مدروساً. وفي المجال الأمني يولّد النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني تهديدات من قبل تنظيمات “إرهابية” (حماس والجهاد الإسلامي وغيرها) من زاويتين رئيسيتين: أسلحة يمكن التحكم بمسارها (صواريخ) وعمليات انتحارية. وهناك أيضاً خطر اندلاع ثورة شعبية تجمع بين الاحتجاج المدني والإرهاب. كما أن المراوحة السياسية لا تسهم في انتشال إسرائيل من خطر العزلة الدولية.
صراع القوى الكبرى وانعكاساته على منطقة الشرق الأوسط
إن ضعف الولايات المتحدة سياسيا، والأزمة الاقتصادية التي لم تخرج منها بعد، وانسحابها من العراق وأفغانستان، وتقليص حجم الجيش الأميركي، ومقاربة الإدارة الأميركية حيال المسألة النووية الإيرانية، تثير قلقاً لدى حلفائها في منطقة الشرق الأوسط.
كما أن التطور السريع لقطاع الطاقة الأميركي، وتقليص اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط، من الممكن أن يساهما في تقليص تدخلها في شؤون منطقة الشرق الأوسط. وفي مقابل الضعف الأميركي، يبرز الدور السياسي الروسي، الهادف إلى إكساب روسيا مكانة قوة ذات تأثير رئيسي في منطقة الشرق الأوسط. ويتجلى هذا الأمر بدعم روسيا حلفائها في المنطقة (وبخاصة نظام الأسد في سوريا)، وبمحاولة توسيع نطاق نفوذها إلى مصر (التي خاب أملها من مقاربة الولايات المتحدة).
ويزداد نفوذ الصين تدريجياً في منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية. فالصين، من جراء كونها صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وبحكم احتياجاتها الهائلة لموارد الطاقة، معنية بضمان إمداد منتظم للنفط والمواد الخام الأخرى الحيوية لاقتصادها. ومع ذلك، فهي معنيّة بالاستقرار الإقليمي وتمتنع عن التدخل في النزاعات الإقليمية.
إن ضعف النفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط قد يكون حافزاً على زيادة تأثير وتدخل الصين في المنطقة على المدى البعيد.
العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة الأميركية
بحكم وضع دولة إسرائيل الجيوسياسي المعقد، وعدم التكافؤ الأساسي بينها وبين أعدائها، سعت إسرائيل منذ قيامها للتحالف أو إقامة شبه تحالف مع قوة عظمى واحدة على الأقل. واعتباراً من سبعينيات القرن الماضي، توثقت العلاقات مع الولايات المتحدة وتطورت إلى “منظومة علاقات مميزة”. وهذه العلاقات المميزة بين الولايات المتحدة وإسرائيل هي الرصيد السياسي والأمني الأهم لدى إسرائيل في الحلبة الدولية .
ولإسرائيل مصلحة حيوية ليس فقط في المحافظة على هذه العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، وإنما في تعزيزها بكل ما أوتيت من قوة. وتبرز حيوية هذه العلاقات المميزة بالذات في الحقبة الحالية، إذ تجد إسرائيل نفسها في عزلة دولية متزايدة. إن مواصلة الدعم الأميركي لإسرائيل أمر حيوي في مواجهة عمليات نزع الشرعية عن دولة إسرائيل في محافل دولية متعددة. ولهذه الغاية من الحيوي وضع جدول أعمال سياسي مشترك مع الولايات المتحدة من خلال بلورة صورة العالم الشرق أوسطي لدى الإدارة الأميركية، التنسيق والتفاهم حيال القضية الفلسطينية. كما أن تحول إيران إلى دولة نووية يعزز من أهمية العلاقات المميزة مع الولايات المتحدة، وأهمية صونها وتطويرها بوصفها مكوّناً حيوياً في عقيدة إسرائيل الأمنية.
ساحات وتحديات جديدة (قديمة)
– مجال الحرب السبرانية
يتنامى تأثير الوسيط السبراني الذي يحتل مكاناً مركزياً في كل مجالات النشاط المدني والأمني في العالم بأسره. ولقد أضحت دولة إسرائيل، كغيرها من الدول الحديثة المتطورة “شديدة الاعتماد على الحواسيب” وعرضة لهجمات السايبر. وفي مجال الحرب السبرانية، يرتدي الدفاعُ عن المرافق الحيوية للدولة في مجالات الطاقة، والمياه، والحوسبة، والاتصالات، والنقل، والاقتصاد، وحمايةُ البنى التحتية الأمنية الحيوية، أهميةً قصوى. وعلى المستوى القومي، مطلوب تصوّر منظومي شامل للدفاع عن الأنظمة المحوسبة، والذي يمكن تسميته “الدفاع السبراني”.
يسمح الفضاء السبراني للخصم بإلحاق أضرار كبيرة من دون القيام بخطوات مادية عنيفة، “خِفْيةً” ومن دون ترك “بصمات” تكشف هوية الفاعل.
إن المستجدات الكثيرة في مجال تكنولوجيات الحرب السبرانية تتحدّى النظريات الأمنية الحالية، وتتطلب إعادة درس المفاهيم الأساسية وإجراء التعديلات اللازمة في العقيدة الأمنية لتكون قادرة على مواجهة التهديدات الجديدة.
– مجال تطبيقات تكنولوجيات علوم الفضاء
إن تطور تكنولوجيات الفضاء في العالم، وتغير طابع الحروب، وتوسيع مجال التهديدات ضد دولة إسرائيل، جعل استخدام الفضاء لأغراض أمنية أمراً حيوياً لدولة إسرائيل، مما يقتضي إدخال هذا البعد في عقيدتها الأمنية.
في غضون العقود الأخيرة، اتسعت دائرة التهديدات ضد دولة إسرائيل نتيجة تمكّن دول بعيدة جغرافيا (كالعراق وإيران) من تهديدها عبر إطلاق صواريخ بعيدة المدى محملة برؤوس غير تقليدية. وهو ما يسمى “تهديد من الدائرة البعيدة أو من دول الطوق الثالث”. ويشكل استخدام الفضاء بالتالي بُعداً استراتيجياً جديداً لدولة إسرائيل (بالإضافة إلى الأبعاد الثلاثة التقليدية: البرية، والبحرية، والجوية). وفي السياق الأمني – العسكري، يبرز بُعد الفضاء منذ الثورة التكنولوجية والتغير في طبيعة المواجهات، بصفته مكّوناً رئيسياً من مكونات العقيدة الحديثة لاستخدام القوة العسكرية. وبتكامله مع تكنولوجيات الحوسبة، فإنه يخلق مجموعةً متكاملةً من أنظمة جمع البيانات الاستخبارية، والقيادة والتحكم، والهجوم، ويضاعف عملياً قوة كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة، ويعزز قوتها المجتمعة على مستوى الإدارة الاستراتيجية، والعملانية، والتكتيكية، للحرب.
– زيادة أهمية الساحة البحرية
بعد مرور ستين عاماً على بلورة العقيدة الأمنية من قبل بن غوريون، لم يعد “الوزن النوعي” للمكوّن البحري في العقيدة الأمنية ملائماً لوزنه الحقيقي، والمطلوب بالتالي إجراء تعديلات وتغييرات في العقيدة الأمنية، ومن بينها الاعتراف بالأهمية الاستراتيجية للساحة البحرية كبند أساسي في عقيدة إسرائيل الأمنية. إن ما يقارب 80 في المئة من سكان إسرائيل يقطنون على امتداد ساحل البحر الأبيض المتوسط. إن غالبية المرافق الحيوية لدولة إسرائيل (محطات الطاقة، معامل تكرير النفط، معامل تحلية المياه، المرافئ، قواعد عسكرية وغيرها) مركزة بكثافة على امتداد الساحل. كما أن البحر الأبيض المتوسط هو شريان الحياة الذي يربط إسرائيل بأوروبا وأميركا، في حين أن البحر الأحمر يربطها بأفريقيا وآسيا. وإن ما يقارب 97 في المئة من استيراد وتصدير البضائع من وإلى إسرائيل يتم عن طريق الشحن البحري عبر الموانئ.
وفي الأعوام الأخيرة، أضيفت عناصر جديدة إلى مكوّنات الأساس الجيوسياسية المبيّنة أعلاه، وتقتضي هذه العناصر المدرجة تالياً إعادة درس مكانة الساحة البحرية في عقيدة إسرائيل الأمنية: اكتشافات مكامن الغاز الطبيعي قبالة شواطئ إسرائيل، وترسيم حدود “المياه الاقتصادية” (المنطقة الاقتصادية الخالصة) وضرورة حماية هذه الموارد الاستراتيجية؛ تزايد أهمية البحر الأحمر بصفته ممراً تجارياً إلى القوى الكبرى الآسيوية (الصين، الهند، اليابان)؛ وخطة التطوير واسعة النطاق لمنطقة إيلات: مرفأ جديد، ومطار جديد، ومشروع “سكة حديد إيلات”، ومشروع “قناة البحرين” (جرّ مياه البحر الأحمر إلى البحر الميت وما إليه).
ويمثل البحر الأحمر بالنسبة لإسرائيل ساحة صراع ضد الاختراق الاستراتيجي الإيراني لهذا الحيّز، وضد المحاولات الإيرانية لنقل الوسائل القتالية إلى الفلسطينيين عبر هذه المنطقة، وضد تهديدات إرهاب الجهاد العالمي الآتية من اليمن والقرن الأفريقي.
إن المواجهة الاستراتيجية ضد إيران في سياق تطوير قدراتها النووية العسكرية، تتطلب استعداد إسرائيل بحيث يشمل الردّ على التهديد الساحةَ البحرية، والقدرةَ على العمل انطلاقاً منها إلى مسافات بعيدة ولفترة طويلة من الزمن.
أثر التغيرات على مكوّنات عقيدة الأمن القومي الإسرائيلية
كما سبق ذكره، ترتكز عقيدة إسرائيل الأمنية على أربعة أسس: الردع، الإنذار الاستراتيجي، الحسم، والدفاع (أضيف هذا البند الرابع في تقرير دان مريدور).
الردع: أولاً وقبل كل شيء، بناء قدرات عسكرية تردع أعداء إسرائيل عن المبادرة إلى شن حرب ضدها.
الإنذار الاستراتيجي: في حال فشل الردع في تحقيق غايته، مطلوب قدرة استخباراتية تعطي إنذاراً مبكراً عن نية العدو الإقدام على شن الحرب.
الحسم: في حال فشل الردع وبادرت الجيوش العربية إلى الهجوم، ينبغي نقل الحرب إلى أرض الخصم باكراً والسعي لحسم المعركة بأسرع ما يمكن.
وتنبع إرادة نقل الحرب إلى أرض الخصم من غياب العمق الاستراتيجي، ومن السعي لتقليص الأضرار التي تلحق بالبنى التحتية الاستراتيجية والسكان المدنيين بقدر الإمكان. وينبع مبدأ الحرب القصيرة من إدراك أن الجيش مضطر إلى استدعاء قوات الاحتياط إبان الحرب، وأن تعبئتها لفترة زمنية طويلة تضرّ باقتصاد الدولة. كما ينبع السعي لإنجاز حسم سريع من إرادة ردع الخصم عن خوض جولات إضافية من القتال مستقبلاً. لكن، بعد توقيع اتفاقات سلام مع مصر والأردن، تقلص كثيراً خطر الغزو المفاجئ للجيوش العربية.
منذ حرب يوم الغفران (1973) تغيرت طبيعة التهديدات التي تتعرض لها دولة إسرائيل، وتراجع خطر الحرب الشاملة في مواجهة ائتلاف الجيوش العربية. وأضحت المواجهات مع تنظيمات لادولتية (تنظيمات إرهابية) هي عنصر التهديد الرئيسي المألوف. وبناءً عليه، ينبغي البحث لدى إجراء تعديلات على عقيدة الأمن القومي في مدى ملاءمة ركائز الأمن التقليدية (الردع، الإنذار، الحسم) في مواجهة خصم من هذا الطراز.
إن مفهوم الدفاع الذي أضيف إلى ثلاثية ركائز الأمن يستهدف الردّ على التهديدات التي تتعرض لها الجبهة الداخلية من دول بعيدة جغرافياً (دول الطوق الثالث – العراق سابقاً، وإيران حاضراً)، ومن دول الجوار المعادية مثل سوريا، وبخاصة من جانب التنظيمات الإرهابية الشيعية، والفلسطينية (وعلى ما يبدو أيضاً التنظيمات الجهادية).
يتهدد إسرائيل اليوم أكثر من مئة ألف قذيفة صاروخية وصاروخ موجودة في حوزة التنظيمات الإرهابية، والتي يصل مداها إلى أقسام واسعة من مساحة دولة إسرائيل. وعليه، ينبغي أن تحدد العقيدة الأمنية المحدثة الردّ المطلوب على هذا التهديد بواسطة مجمل ما يتوفر لدولة إسرائيل من وسائل (سياسية، وعسكرية – دفاعية وهجومية، وإمكانات لحماية السكان ودعم صمودهم).
التكيّف – التأقلم كعنصر إضافي في عقيدة الأمن القومي الإسرائيلية
من جراء دينامية ووتيرة التغيرات الجيوسياسية على الصعيدين الإقليمي والداخلي في كل دولة، المتكررة والممتدة في الزمان، والتي تشمل دول المواجهة، تبرز الحاجة لضمّ مكوّن إضافي إلى ركائز عقيدة الأمن القومي الأربعة “الكبيرة”.
وهذا المكوّن الإضافي هو التكيّف، أي التلاؤم مع ظروف الواقع الديناميكي والمتغير. وليس المقصود الجانب التكتيكي للفكرة، وإنما الجانب المفاهيمي- الاستراتيجي. هذا بالإضافة إلى تحديد الفرص الجديدة التي يمكن الاستفادة منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من سلسلة أوراق البحث في السياسة والاستراتيجيا: “تأملات في عقيدة الأمن القومي الإسرائيلية”، الصادرة عن منتدى هرتسليا لبلورة عقيدة الأمن القومي، معهد السياسة والاستراتيجيا (IPS) وLauder School of Government Diplomacy and Strategy (آذار 2014).
ألكس مينتس هو رئيس “معهد السياسة والاستراتيجيا” وعميد كلية “لاودر للدبلوماسية”، والكولونيل (متقاعد) شاؤول شاي هو رئيس فريق الأبحاث في المعهد المذكور.