بعد ما يقارب خمسة عشر شهرًا من حرب وحشية نادرة في التاريخ الحديث، أُعلن عن ما سُمِّي بـ”اتفاق غزة” بين الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس، يدخل حيز التنفيذ في يوم 19 كانون الثاني ٢٠٢٥، اذا ما تنصلت الحكومة الإسرائيلية مرة أخرى عنه، وتضمن الاتفاق ثلاث مراحل أساسية: وقف إطلاق النار، تبادل الأسرى، إدخال المساعدات الإنسانية، فتح المعابر، والانسحاب التدريجي للجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، وإعادة الإعمار.
إن “اتفاق غزة” هو في الحقيقة بمثابة وقف مؤقت لآلة الحرب الوحشية التي شنتها دولة إسرائيل ضد سكان غزة. فقد كانت الحرب على قطاع غزة حربًا من طرف واحد، استهدفت كل ما هو فلسطيني، وسعت إلى اقتلاع الحياة من القطاع، عبر تلويث الهواء، تدمير الأبنية السكنية، تدمير مصادر الطاقة، حرمان السكان من المياه النظيفة، تجريف الأراضي، وتحطيم المستشفيات، سعت هذه الحرب إلى تحويل مناطق الفلسطينيين إلى أماكن غير قابلة للعيش. أي يمكن وصف الحرب على سكان غزة ولمدة خمسة عشر شهرا بأنها حملة إبادة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة.
وخلال هذه الفترة، انقسم العالم إلى جبهتين:
• الجبهة الإنسانية العالمية:
هذه الجبهة ضمّت الطبقة العاملة، الطلبة، النساء، المثقفين، الأحرار، عشرات الأحزاب التقدمية، ومنظمات حقوق الإنسان من مختلف بلدان العالم، مثل: الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، ألمانيا، إسبانيا، إيرلندا، بريطانيا، جنوب إفريقيا، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، ليبيا، باكستان، إندونيسيا، كوريا الجنوبية، اليابان، الفلبين، الأردن، العراق، تركيا، ولبنان.
رفعت هذه الجبهة صوتها عاليًا في مواجهة السياسات النازية التي انتهجتها إسرائيل، وعبرت عن موقفها بأساليب متعددة، منها: التظاهرات في الشوارع، وقف العمل في الموانئ وبعض القطاعات الصناعية، الاعتصامات داخل الجامعات، الاحتجاجات ضد خطابات المسؤولين الغربيين المؤيدين لإسرائيل، حملة مقاطعة السلع الاسرائيلية والشركات والجامعات التي تدعم اسرائيل ماديا ومعنويا، فضلا على الحملات الدعائية والتوعوية عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة وتنظيم عشرات الندوات لفضح جرائم إسرائيل في غزة.
وأسفرت جهود هذه الجبهة عن نتائج ملموسة، منها إصدار مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل، ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت من قبل المحكمة الجنائية الدولية. كذلك، نجحت في الضغط على المجتمع الدولي لإصدار قرار من مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية بوقف الحرب.
وتمكنت هذه الجبهة الإنسانية العريضة بتمزيق “الرواية الإسرائيلية” التي لطالما خدعت العالم وأعمت أعينها عن حقيقة دولة إسرائيل وطبقتها الحاكمة النازية بجميع تياراتها اليسارية واليمينة والوسطية، منتزعةً كل شرعية دولية كانت تحاول إسرائيل من خلالها تبرير جرائمها تجاه الشعب الفلسطيني والسياسة العنصرية التي طالما احتمت بادعاءات المظلومية والحق الزائف في الدفاع عن نفسها. وتعرض ناشطو هذه الجبهة لحملات اعتقال، طرد من العمل، وتسقيط سياسي وأخلاقي.
• الجبهة المعادية للإنسانية:
هذه الجبهة رقصت على جماجم العشرات من آلاف الضحايا المدنيين الذين قتلتهم الطائرات الإسرائيلية دون أي وازع إنساني. استمتعت هذه الجبهة بأنين الأطفال واللاجئين الذين كانوا يعانون في المخيمات من الجوع والخوف والبرد. وغضّت الطرف عن مشاهد مئات الآلاف الذين بترت أطرافهم أو شوهت أجسادهم أو دفنوا أحياء تحت الأنقاض. كانت هذه الجبهة ترسل، ليل نهار، الدعم المالي والعسكري لإسرائيل لتوسيع مساحة القتل والدمار بحق الفلسطينيين، وقدمت لها غطاءا سياسيا في المؤسسات الدولية. وقد قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنصب نفسها عرابة لحقوق الإنسان، ولم تدخر جهداً في دعم السياسة النازية لإسرائيل في حربها من طرف واحد، سوى دموع التماسيح التي أُذرفتها على أطفال غزة والمأساة الإنسانية هناك. ولم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزت حتى المبادئ الكاذبة التي كانت تدعيها حول الديمقراطية، حيث منعت إيصال الحقيقة وخنقت كل صوت يفضح جرائم إسرائيل أمام العالم، فالمليارديرات الذين يمتلكون وسائل الإعلام، مثل المعتوه إيلون ماسك صاحب منصة “إكس”، ومارك زوكربيرغ صاحب منصات فيسبوك وإنستغرام وواتس آب وماسنجر، حجبوا الكلمة التي تصف إسرائيل بوصفها الحقيقي كدولة فاشية و نازية وعنصرية.
خلال خمسة عشر شهرًا من حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على سكان غزة، تبين أن المجتمع الدولي يعاني من نفاق سياسي كبير، وأن المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، مجلس الأمن، ومحكمة العدل الدولية، ليست سوى هياكل صورية تجمّل الوجه القبيح للإمبريالية العالمية وحلفائها.
إن الطبقة الحاكمة في إسرائيل، بدعم من القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تسعى جاهدة لطمس القضية الفلسطينية وتحويلها إلى مجرد ملف للمساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار وصفقات مثل “اتفاقات ابراهام” التي يدعو لها الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، بعيدًا عن جذورها السياسية والحقوقية.
إن طيّ صفحة حرب الإبادة الإسرائيلية تحت عنوان “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” وسحب البساط من تحت أقدام الذين يعتاشون على الظلم القومي الواقع على الفلسطينيين مرهون بنضال الطبقة العاملة العالمية لتحقيق العدالة.
نحن في الجبهة العمالية الموحدة للدفاع عن الشعب الفلسطيني نؤكد أن وقف إطلاق النار في غزة، الذي كان هدفًا رئيسيًا لنا، يمثل بداية الطريق نحو إيقاف مجازر إسرائيل بحق الفلسطينيين. وندعو الطبقة العاملة وجميع القوى التحررية في العالم إلى:
– استمرار الضغط لتحويل وقف إطلاق النار المؤقت إلى وقف دائم.
– تقديم كل أشكال التعويضات المادية والمعنوية والصحية والنفسية لضحايا الحرب الفاشية الإسرائيلية في غزة.
– تفعيل مذكرات الاعتقال الصادرة بحق مجرمي الحرب الإسرائيليين.
– السعي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة كشرط أساسي لتحقيق السلام.