في توصيفه الحرب المتصاعدة على غزة، قال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس “إنها ليست حرباً بين جيشين بل حرب بين جيش الاحتلال “الإسرائيلي” والشعب الفلسطيني الصامد تحت الاحتلال” .
الواقع أنها باتت حرباً بين شعبين وليس فقط بين جيش الاحتلال والشعب الفلسطيني . ف “شعب المستوطنين” ومن يؤيده من آلاف “الإسرائيليين” كان باشر الحرب في الضفة الغربية منذ شهور وسنوات باعتداءاته المباشرة على المزارعين الفلسطينيين، وإتلاف مزروعاتهم، وقطع أشجار زيتونهم، واختطاف شبانهم وأطفالهم وقتلهم، وحرق أحدهم حياً في حي شعفاط بالقدس الشرقية مؤخراً .
حكومة نتنياهو كانت وما زالت تحت ضغط شديد من أحزاب اليمين المتطرف المشارِكة فيها لتصعيد العدوان على قطاع غزة لدرجة أن وزير الخارجية أفيغدور ليبرمان هدد بالاستقالة إن لم تتخذ الحكومة قراراً باحتلال القطاع .
نتنياهو ليس ظاهراً، مع قرار الاحتلال . هو يعرف أن الاحتلال صعب إن لم يكن مستحيلاً، وهو دائماً مكلف جداً، بشرياً ومادياً وعسكرياً . لذا يفضّل نتنياهو استنزاف القطاع، شعباً ومقاومة، أملاً في حمل فصائل المقاومة على القبول بشروطه لتجديد التهدئة . فصائل المقاومة أدركت أغراض نتنياهو وقررت افسادها قبل تفاقم مردودها السياسي والعسكري . لذا ردّت على القصف “الإسرائيلي” الجوي والبري بإطلاق مئات الصواريخ قصيرة المدى على المستعمرات “الإسرائيلية” في النقب المحيطة بالقطاع، ثم وسعت دائرة قصفها الصاروخي تدريجاً مع تصعيد الجانب “الإسرائيلي” قصفه الجوي .
“إسرائيل”، قيادة وشعباً، فوجئت بردّ المقاومة . كانت تنتظر بالطبع رداً، لكن ليس بالسرعة والقوة والمدى الذي اتصف به .
إلى أين من هنا؟
لا شك في أن “إسرائيل” هي الجانب المحبَط في المواجهة . فالمقاومة، بصواريخها المتوسطة المدى التي طاولت تل أبيب وحيفا والقدس وبئر السبع أوحت بأنها جادة فيما أقدمت عليه، وأن لديها من الصواريخ المتوسطة المدى ما يمكّنها من نقل الحرب الى عمق العدو مع ما تجرّه من انعكاسات مؤذية اقتصادياً وسياسياً . ذلك أن “إسرائيل” لا تتحمل اغلاق مطار اللد ومرافىء حيفا وأسدود وعسقلان وإيلات مدة طويلة، كما لا تستطيع المغامرة باحتلال قطاع غزة بعدما بات شبكة من الأنفاق القادرة على التهام وحدات الجيش “الإسرائيلي” الغازية .
“إسرائيل” لا تستطيع احتمال هذا الوضع، خصوصاً إذا ما اضطرت قيادة الجيش إلى مناشدة مئات آلاف اليهود الصهاينة النزول إلى الملاجئ والمكوث فيها وقتاً طويلاً . ثم إنها لا تستطيع احتمال خسارتها حرب تثبيت ميزان الردع لصالحها، كما كانت تظن بعد حرب ،2012 لأن ذلك يقود إلى تشجيع فصائل المقاومة على معاودة عملياتها المدمرة وربما إلى شن حرب أوسع بالتحالف مع طرف عربي أو أكثر، فما العمل؟
لعل نتنياهو سيجد نفسه مضطراً الى الانفتاح مجدداً على الجهود الرامية الى وقف القتال، بل وقف العدوان، والاتفاق على تهدئة جديدة . غير أنه سيحاول “جباية ثمن” كبير قبل الموافقة على تهدئة جديدة . جباية الثمن يمكن ترجمتها باعتماد المزيد من حرب الاستنزاف لإلحاق أكبر ضرر بشري ومادي بقطاع غزة بغية حمل فصائل المقاومة على محاذرة العودة إلى القتال قبل أربع أو خمس سنوات .
فصائل المقاومة تضع في حسبانها، دونما شك، احتمال تصعيد نتنياهو حرب الاستنزاف ضد قطاع غزة، ولعلها سترد باللجوء إلى النهج نفسه ضد “إسرائيل”، أي إمطار العدو بآلاف الصواريخ على مستوى الأرض المحتلة كلها بشكلٍ يلحق أشد الأضرار البشرية والمادية بمرافق الجبهة الداخلية .
في هذا السياق، بات محكوماً على محمود عباس أن يتخذ موقفاً وطنياً وعملياً غير عادي . فهو أقرّ بأن الحرب ليست بين جيشين بل أضحت ضد الشعب الفلسطيني كله . وعندما يكون الأمر كذلك، فلا أقل من أن يقوم أبو مازن باتخاذ قرار تاريخي باسم الشعب الفلسطيني بإلغاء اتفاق التنسيق الأمني المعقود مع “إسرائيل”، كما المبادرة إلى الانضمام إلى اتفاق روما، أي معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، كي يصبح بالإمكان ملاحقة المسؤولين “الإسرائيليين” بجرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية وبينها زرع مستوطنين في الأراضي المحتلة .
جميل أن يدعو أبو مازن المجتمع الدولي ومجلس الأمن إلى حماية الشعب الفلسطيني من العدوان “الإسرائيلي” الوحشي المستمر، لكن أبا مازن يعلم، وإن كان لا يصرح، أن المقاومة وحدها تتولى حماية الشعب الفلسطيني في هذا الزمن الصعب، وأن أبسط الواجبات الوطنية تستوجب، في حدها الأدنى، أن يتصرف القادة الفلسطينيون على نحو يخدم قضية المقاومة ولا يسيء إليها أو يلجم اندفاعاتها في سياق وعود فارغة ما انفك حلفاء “إسرائيل” يقدمونها للفلسطينيين والعرب منذ النكبة العام 1948 .
الخليج الاماراتية