وجه فوز عبد الفتاح السيسي بمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية المصرية ضربة أخرى إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي أصبحت آلتها السياسية التي كانت هائلة ذات مرة في حالة يرثى لها منذ أطاح الجيش المصري بالرئيس الإسلامي محمد مرسي في تموز (يوليو) الماضي. وعلى الرغم من أن السيسي كان يدير البلاد بفعالية منذ الانقلاب الذي بدأه كقائد للقوات المسلحة المصرية، فإن الانتخابات –التي تم تمديدها يوماً ثالثاً للتصويت وسط مشاركة منخفضة- سوف تعمل بلا شك على إضفاء الطابع الرسمي على نظام استبدادي من حيث الأساس، والذي يمثل دكتاتورية عسكرية في كل شيء إلا الاسم.
على السطح، تشكل الانتخابات فوزاً واضحاً للسلطوية العلمانية على الإسلاموية المعتدلة. وبعد كل شيء، خاض السيسي حملته على برنامج القضاء على الإخوان المسلمين. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الجيش سوف يجني ثمار هذا الانتصار، فإنه ربما يكون هناك مستفيد آخر أقل وضوحاً من هذه الانتخابات: الجماعات الإسلامية المتشددة. فمن منظور القاعدة، قامت نتائج الانتخابات بإضفاء الصلاحية على زعم الجماعة الأيديولوجي الأساسي بأن العنف –وليس المشاركة السلمية في السياسة- هو الطريق الوحيد لبناء دولة إسلامية.
في حقيقة الأمر، قدم الفشل الواضح للاستراتيجية السياسية التي تبنتها جماعة الإخوان المسلمين فرصة لتنظيم القاعدة والجماعات المشابهة في التفكير لتغيير وجهة النكسات التي منيت بها نتيجة لاحتجاجات الربيع العربي في العام 2011. وقد بدا نجاح تلك الاحتجاجات التي كانت سلمية وغير أيديولوجية إلى حد كبير وأنه يدحض الادعاء الجهادي بأن التغيير لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العنف. ولكن منذ ذلك الحين، لعبت الإطاحة برئيس إسلامي منتخب ديمقراطياً في مصر، ونزع الشرعية عن جماعة الإخوان المسلمين، وعمليات الاعتقال التعسفي لآلاف من أعضائها، مباشرة لصالح المتطرفين.
من حيث المبدأ، وفي أعقاب انقلاب تموز (يوليو) الذي أطاح بمرسي، أصبح بوسع زعيم تنظيم القاعدة مصري المولد، أيمن الظواهري، وقادة جهاديين آخرين قادرين أن يحيلوا سقوط جماعة الإخوان المسلمين إلى تخليها عن العنف لصالح المشاركة السياسية. كما أصبح بإمكان الجهادين أن يستشهدوا أيضاً بحملة الجيش الوحشية ضد اعتصامات المصريين المؤيدين لجماعة الإخوان في القاهرة في 14 آب (أغسطس)، والتي راح ضحيتها ما يزيد على 500 شخص. وبدلاً من إخماد التطرف، خلقت غلظة الجيش انطباعات ضارة لنفسه، حيث أصبح الإسلاميون المصريون –الذين تم إقصاؤهم من العمليات السياسية- أكثر ميلاً إلى حمل السلاح. وفي الأسابيع الأخيرة، تم توجيه اتهامات إلى متظاهرين مؤيدين لجماعة الاخوان المسلمين بالقيام بأعمال شغب وتخريب، وإحراق لسيارات الشرطة. وفي الوقت نفسه، قام عدد من الجماعات الجهادية الجديدة بتنفيذ موجة من الهجمات المسلحة والتفجيرات الانتحارية خارج شبه جزيرة سيناء، وأصبحت هذه الهجمات تهدد بشكل متزايد المناطق الحضرية الواقعة في أقصى غرب قناة السويس.
في هذا السياق، من الممكن كثيراً أن يعمد تنظيم القاعدة إلى استغلال نصر السيسي السياسي من أجل المزيد من تشويه سمعة الإسلاميين المعتدلين، وتجنيد أتباع جدد من بين صفوف أنصار جماعة الإخوان المحبطين. وفي غياب أي توجيه من القادة الذين هم إما في السجن أو مختبئين، ربما يصبح أعضاء جماعة الإخوان أكثر تعاطفاً باطراد مع الجماعات المتشددة، والتي تعرض لهم واحدة من السبل المتبقية لمقاومة الحكم العسكري الذي يقوم بتوطيد سيطرته بسرعة على السياسة والاقتصاد ووسائل الإعلام.
تأمين الوصول إلى مصر
في إشارة إلى أن تنظيم القاعدة قد يكثف جهوده لتأمين الوصول إلى مصر، وقبل أسابيع قليلة من الانتخابات الرئاسية، أدلى زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري بتصريح نادر للتضامن مع الإخوان المسلمين. وفي مقابلة صوتية بثتها المنتديات والمواقع الجهادية في 26 نيسان (أبريل)، دان الظواهري حملة الجيش العنيفة على الإخوان، مؤكداً أن لأعضائها “الحق في استخدام القوة ضد الظلم الذي يواجهونه”. وفي رسالة فيديو منفصلة، والتي نشرت يوم 3 أيار (مايو)، قال الظواهري إن عودة الحكم العسكري في مصر هي “جريمة كاملة الأركان” والتي تتطلب المقاومة.
كان الظواهري يعرب بشكل روتيني عن دعمه للجماعات الجهادية في مصر -كما فعل في الرسالة الصوتية التي بُثت يوم 24 كانون الثاني (يناير)، وأثنى فيها على “أهلنا في سيناء”- لكنه نادراً ما فعل ذلك لجماعة الإخوان المسلمين. وعلى الرغم من أن تنظيم القاعدة وجماعة الإخوان يشتركان في الهدف المشترك -إقامة دولة إسلامية- فإنهما يتباعدان بحدة عندما يتعلق الأمر بالاستراتيجية: ففي حين تروج القاعدة للجهاد المسلح، انتهجت جماعة الإخوان نهج المشاركة السياسية السلمية في العمليات الديمقراطية التي تشمل العلمانيين، فضلاً عن الأحزاب غير الإسلامية. وكان الظواهري نفسه ذات مرة عضواً في جماعة الإخوان، لكنه افترق عن الجماعة في وقت لاحق بسبب قرارها التخلي عن العنف.
خلال السنة التي مضت منذئذ، وجهت القاعدة نقداً متواصلاً إلى ميول جماعة الإخوان الديمقراطية ورغبتها في التعاون والتفاوض مع القوى السياسية غير الإسلاموية، بما فيها حزب حسني مبارك الحاكم السابق. وبعد أن حققت الأحزاب الإسلامية مكاسب كبيرة في الانتخابات التشريعية المصرية في العام 2005، وفي الانتخابات الفلسطينية في العام 2006، كانت القاعدة والمجموعات المتطرفة الأخرى غير مسرورة. وقد شجب الظواهري نفسه سلوك جماعة الإخوان في مصر بسبب “اجتذاب الآلاف من الشباب المسلم إلى طوابير الانتخابات بدلاً من طوابير الجهاد”. واستمر ذلك النقد بعد العام 2011. وبعد انتخاب مرسي، شكك الظواهري بشكل متكرر في التزام الرئيس بالشريعة الإسلامية، وانتقد دستور العام 2013 الذي صاغته لجنة يهيمن عليها “الإخوان”، بوصفه غير إسلامي بما يكفي.
الغضب يأتي إلى القاهرة
من منظور تنظيم القاعدة، يجسد صعود السيسي إلى سدة السلطة فشل الإسلام السياسي المعتدل أكثر مما يجسد انتصار السلطوية الاستبدادية العلمانية. ويترك ذلك الصعود الآلاف من أنصار جماعة الإخوان مصابين بخيبة الأمل، ويجعلهم عرضة للتجنيد على يد جماعات إسلامية أكثر راديكالية.
كانت آثار تسبب الحكم العسكري بدفع المصريين إلى التطرف ظاهرة قبل فترة طويلة من إعلان السيسي عن طموحاته الرئاسية. ففي غياب المؤسسات الديمقراطية الشاملة، كان العنف يحل بسرعة محل السياسة، بوصفه الوسيلة الوحيدة لتحدي الوضع الراهن. وفي الآونة الأخيرة، شهدت مصر زيادة كبيرة في وتيرة الإرهاب الداخلي، مع وقوع ما يزيد على 300 هجوم موثق، كما تشكلت اثنتان على الأقل من المنظمات الجهادية الجديدة منذ تموز (يوليو) 2013. ويوم 23 أيار (مايو)، فجر مسلحون مجهولون خط أنابيب الغاز الطبيعي في شمال سيناء للمرة الثالثة والعشرين منذ قيام انتفاضة العام 2011. وتعزى الغالبية العظمى من هذا العنف إلى جماعات جهادية محلية، مثل أنصار بيت المقدس، وهي جماعة مقرها سيناء وظهرت لأول مرة في العام 2011، ويقدر الآن أن يكون فيها بين 700 و1000 عضو. وربما تستلهم هذه الشبكات الجهادية الناشئة أيديولوجيتها من تنظيم القاعدة، لكنه لا يبدو أن لها علاقات رسمية بالمجموعة.
على الرغم من أن لمصر تاريخا طويلا مع الإرهاب، فإن الموجة الأخيرة من العنف تبقى فريدة لعدة أسباب: المدى الجغرافي، والتعقيد العملياتي للهجمات، والطبيعة العبر-وطنية للعنف، وتطرف الجماعات الإسلامية وغير الإسلامية على حد سواء.
أولاً: أخذت الجماعات الجهادية الإسلامية التي كان نشاطها مقتصراً في السابق على شبه جزيرة سيناء بالعمل ضمن نطاق جغرافي غير مسبوق، حيث تقوم بشن هجمات مسلحة في مناطق مكتظة بالسكان في دلتا النيل والقاهرة نفسها، بما في ذلك محاولة اغتيال وزير الداخلية في أيلول (سبتمبر) الماضي، والتي أعقبها التفجير القاتل في مقر أمن الدولة في المنصورة في كانون الأول (ديسمبر). وبالإضافة إلى هذا النطاق الجغرافي المتسع، تميزت الهجمات الإرهابية الأخيرة بتطور غير مسبوق في كل من الأسلحة والتكتيكات. وعلى سبيل المثال، أطلق المتطرفون النار في أوائل أيلول (سبتمبر) من العام 2013 على سفن الشحن في قناة السويس باستخدام قذائف صاروخية. وفي أواخر كانون الثاني (يناير) نجح الإسلاميون في سيناء في إسقاط طائرة هليكوبتر عسكرية باستخدام صواريخ تطلق من على الكتف –وهي على ما يبدو المرة الأولى التي تُستخدم فيها مثل هذه الأسلحة المتطورة في المنطقة. كما أن السيارات المفخخة التي لم يكن قد سبق استخدامها في مصر حتى الآونة الأخيرة، أصبحت الآن شائعة بطريقة تستدعي عقد المقارنات مع العراق. وسوف تصبح الأسلحة المتقدمة أكثر انتشاراً في مصر، حيث تتدفق الأسلحة المهربة عبر الحدود من ليبيا التي تصبح أقل استقراراً باطراد.
ثانياً، تتميز الموجة الحالية من العنف بأنها تتخذ طبيعة عبر-وطنية أكثر بكثير من نوع الإرهاب المحلي لعقد التسعينيات. وتزعم الحكومة المصرية بأنها اعتقلت عدداً من المقاتلين الأجانب في سيناء، بما في ذلك سوريين وفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، يشير تدفق المئات من الجهاديين المصريين إلى سورية إلى أن مصر ليست مستورداً للإرهاب العالمي فقط، وإنما مصدر له أيضاً. وعلى نحو متزايد، تقوم الجماعات التابعة لتنظيم القاعدة عبر شمال أفريقيا بالإحالة إلى مصر في دعايتها. وعلى سبيل المثال، لامت حركة الشباب في الصومال جماعة الإخوان المسلمين صراحة على التسبب في استيلاء السيسي على السلطة، وشرعت في استخدام هاشتاغ تويتر “#MBWakeup” في 4 تموز (يوليو)، لتحث أنصار الإخوان المسلمين على “خلع النظارات الوردية ورؤية العالم كما هو”، وإرشادهم إلى أن “التغيير يأتي بالرصاص وحده؛ وليس بالاقتراع”.
أما الميزة الثالثة للموجة الحالية من العنف، فهي أن الإسلاميين ليسوا الممارسين الوحيدين. فهناك المجموعات الشبابية المناهضة للحكومة، والتي لديها نزعات فوضوية، وإنما ليست لها هوية دينية صريحة، مثل حركة “ولاء”، والتي أعلنت مسؤوليتها عن تنفيذ الهجمات الأخيرة ضد الشرطة والأهداف العسكرية. ويشير صعود الجماعات المتشددة التي تمثل مجموعة من الأيديولوجيات إلى أن معارضي الحكم العسكري -سواء كانوا من مجموعات إسلامية أو علمانية- أصبحوا يتطلعون إلى العنف كوسيلة وحيدة لتحدي شرعية النظام الذي يقوم بسرعة بإغلاق السبل إلى المنافسة السياسية.
في حالة ترقب
هناك القليل من الأدلة الملموسة على أن القاعدة متورطة مباشرة في موجة العنف الأخيرة في مصر. لكنه سواء كان للمجموعة وجود مادي في مصر أم لا، فإن من الواضح أن قادتها يراقبون التطورات في البلاد باهتمام كبير. ويريد تنظيم القاعدة أن يرى الإخوان وهم يفشلون في السياسة -وهو شيء من شأنه أن يضفي الصلاحية على المزاعم الاستراتيجية والأيديولوجية الأساسية للظواهري.
بوصفه مصرياً بالولادة، وشقيقاً لزعيم حركة الجهاد السلفي المصرية المتشددة، فإن للظواهري حصة في البلد، وكثيراً ما علق على أوضاعها السياسية وسياستها الخارجية. وخلال انتفاضة العام 2011، شجب الظواهري نظام مبارك وأكد أن الجهاد، وليس الدبلوماسية، هو الطريقة الوحيدة لتطبيق الشريعة. وفي الآونة الأخيرة، وصف الظواهري الانقلاب الذي أطاح بمرسي بأنه “أعظم إثبات على فشل اتخاذ المسار السياسي طريقاً للوصول إلى السلطة في الإسلام”، وعزا سقوط جماعة الإخوان المسلمين إلى تخليها المضلَّل عن الجهاد وإلى “استرضائها” للقوى العلمانية.
تزعم “القاعدة” مؤخراً بأنها تحوز قبولاً متزايداً في مصر، وليس لدى الجماعات الجهادية التي انخرطت في العنف مسبقاً وحسب، وإنما لدى إسلاميين كانوا معتدلين في السابق ولدى أنصار جماعة الإخوان المسلمين الذين يذهبون إلى التطرف كرد فعل على اضطهاد الدولة. وفي الوقت الذي تصاب فيه جماعة الإخوان بالعجز بسبب الاعتقالات، وتجميد الأصول، وإلغاء وضعها القانوني، يرى أعضاؤها القليل من الحافز في معاودة دخول عملية سياسية لن يسمح لهم فيها بالمشاركة بحرية.
من المرجح أن ينشئ فوز السيسي حلقة مفرغة من العنف والانتقام بين الجيش والإسلاميين، والذي يستخدم فيه كل جانب عدوانية الآخر التي يفترض أنها غير مبررة كذريعة للتصعيد. في سيناء، رفع الجيش مستوى المخاطر من خلال التعاون مع إسرائيل في شن هجمات بالطائرات بدون طيار، في حين استخدمت جماعات المتمردين الإسلاميين صواريخ أرض-جو لأول مرة. وفي نهاية المطاف، ربما يتحول قرار الحكومة المصرية اعتبار جماعة الإخوان المسلمين رسمياً منظمة إرهابية إلى نبوءة محققة لذاتها، في حين يلجأ عدد متزايد من أعضاء الجماعة إلى العنف باعتباره المنفذ الوحيد المتبقي للمعارضين للنظام.
(فورين أفيرز)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية