على الحدود المصرية مع قطاع غزة المحاصر، تسقط كل الحسابات السياسية. تسقط مزايدات فصائل المقاومة العربية، وتوجهاتها السياسية، وتشتتها حول من موّل ومن سلّح، وتسقط كل احتمالات التغيير المفترضة على المستوى الرسمي بعد “ثورة مصر”. في العدوان الصهيوني الجديد على القطاع القابع تحت الحصار منذ سنوات، بقي الحال كما كان عليه منذ البداية.. سوى بعض المظاهر الاستعراضية للفصيل الصاعد حديثاً ليحكم مصر.
الوقوف أياماً متتالية أمام معبر رفح البري، مع بعض الجولات في المناطق الحدودية (صلاح الدين مع القطاع)، (الماسورة والجورة مع فلسطين المحتلة)، يكشف العديد من العلاقات المتشابكة للأطراف، علاقات تتنقل بين الاقتصادي والسياسي والأمني وحتى العشائري.
يبدأ المشهد من القاهرة، عند ركوب السيارة التي تتوجه للعريش (43 كيلومتراً قبل الحدود). وفيها بعض المجندين من سلاح حرس الحدود في الجيش المصري. وطوال أربع ساعات التي تقطعها السيارة في الطريق، تنهال المكالمات في الاتجاهين بين الركاب ومعارفهم في سيناء ويتم تناقل الأخبار. “مجاهد ينفي وسط سيناء يقصفون إسرائيل”، وترد الإذاعة على لسان قائد المنطقة العسكري “لا صحة لهذه الأخبار”.. “تأثر المنازل في الجزء المصري جراء القصف الإسرائيلي”، ويرد محافظ شمال سيناء، “الهدوء يسود رفح المصرية ولا صحة للأخبار عن تضرر الجانب المصري”.. يؤكد السائق “إطلاق نار عشوائي في العريش والشيخ زويد ورفح”، فيردد كل الركاب للمجندين “ربنا يحفظكوا.. شدوا حيلكم”. ونصل للحدود، وكالعادة، لا صحة لكلام المسؤولين.
يرابط أمام المعبر المئات على مدار الساعة. بين المتضامنين المصريين والأجانب، أهالي العريش ورفح وسائقي سيارات الأجرة، وبالطبع، عملاء الأمن.
مئات من المتضامنين على الحدود على أثر الأخبار المنتشرة عن دخول أكثر من خمسمئة متضامن للقطاع. وهؤلاء ظلوا منذ بداية العدوان حتى اتفاق وقف اطلاق النار في مفاوضات متواصلة مع كل الأطراف لمحاولة الدخول. إلا أن السمة العامة للمفاوضين كانت المماطلة، ومن ثَم فشل النشطاء في الدخول. وتبلغ ذروة هذه المفاوضات عندما يطلب ضابط في حرس الحدود المصري تحديد عشرة أشخاص للتفاوض مع المسؤولين. وداخل المعبر، التقى العشرة بشخصين، أحدهما عرف نفسه بالمقدم في المخابرات العامة المصرية، وعُرِّف الآخر بالضابط الممثل من حركة حماس لدى الجانب المصري. وكان هذا التعريف أحد أبرز التغيرات الواقعة هذه المرة. اعتراف الأجهزة الأمنية المصرية بحركة حماس رسمياً.
كانت لهجة ضابط المخابرات لافتة، حيث عمد الى إظهار تعاطفه مع الواقفين، وتفهمه لأهمية هذا التضامن… لكن “لأنه يدرك ما تحتاجه المقاومة”، ويرى أن التضامن البشري خطر الآن، بالإضافة للخطر الذي سيواجهه هؤلاء، ثم أن “حماس” كانت مشغولة في تأمين الوفود الديبلوماسية التي دخلت القطاع صباحاً. كل ذلك ولم ينطق أبو ياسر، ممثل حماس، كلمة واحدة، إلى أن اعترض أحد المفاوضين محاولاً تفنيد مبررات الرجل. “الوفود الديبلوماسية لا تحتاج لمن يؤمنها. والقصف لم يتوقف حتى ووزراء الخارجية بداخل القطاع، نحن نتفهم الخطورة الأمنية في الأمر، ونتفهم خوفكم من دخول مدسوسين، لكننا نصر على الدخول”.. وما كاد الشاب ينهي حديثه حتى سقط صاروخ لا يبعد سوى عشرات قليلة من الأمتار. وهنا تدخل ضابط حماس.. ناهياً المناقشة المرهقة: “اقنعوا الجانب المصري.. ونحن سنتصرف عندما تصلوا لجانبنا”. وهكذا انتهى حال المفاوضات.. وانتهت “الحملة العسكرية” من دون دخول أحد إلا الصحافيين الأوروبيين والديبلوماسيين الأجانب والعرب، ووفود جماعة الإخوان المسلمين.
وسط هذه المفاوضات.. وبين الكرّ والفرّ على أصوات القذائف و”زن” طائرة الاستطلاع MK، أو “الزنانة”، كما يسميها أهل رفح وغزة، كان نوع آخر من المتواجدين ينشط… سماسرة الأنفاق.
بعض النشطاء العارفين طريقهم.. يبحثون بين الأهالي الموجودين “كسلاسل بشرية لحماية أهل غزة” عمن يملك مساعدتهم. محاولين تفادي التورط بين “عصافير” الأمن المنتشرين في المكان. ويظهر أحد السكان المحليين لمنطقة الماسورة المحاذية للحدود. ويبدأ تقديم عرضه. “هنعديك من نفق. مع التنسيق مع الناحية التانية.. 150 دولاراً (حوالي 900 جنيه مصري)”. ويهبط السعر في نهاية المفاوضات حتى 25 دولاراً. يسرع السمسار في توجيه التعليمات: “سننسق مع عائلة في الجهة الأخرى.. ستجد شرطة حماس في انتظارك.. ممنوع نقل بعض السلع. في الأيام العادية، نقل الحشيش برصاصة في القدم. نقل السجائر بغرامة 2500 دولار”. ويتوجه النشطاء لشارع صلاح الدين الملاصق للحدود. ويأتي إحباط كاد أن يكون قاتلاً هذه المرة.. تعميم من “العالمين ببواطن الأمور”. الأنفاق ستقصف بعد دقائق.. ممنوع التنقل خلالها. ويكتفي النشطاء بالصعود إلى التبّة ومشاهدة القصف الإسرائيلي للمناطق الحدودية.
مشهد آخر يسيطر على قرية رفح المصرية. تراشق لفظي سرعان ما يتطور للضرب والتهديد بالبنادق الحربية في التنافس على نقل الخارجين من القطاع للقاهرة أو على بيع العملات في السوق السوداء أمام حاجز الجيش.
منذ عبور حاجز الميدان، قبل العريش بعشرة كيلومترات، تبدأ الأسعار في القفز مرات عديدة. يقف سماسرة السوق السوداء ويحددون السعر بحسب المشتري. المفترض أن يباع الشيكل بجنيه ونصف مصري. وعلى جانب القادمين من غزة يباع الجنيه بشيكيلين. وللمتضامنين الراغبين في الدخول، يباع الشيكل الواحد بثلاثة جنيهات. أما المواصلات، فارتفعت تعرفتها في لحظة بنسبة 300 في المئة. مع الكثير من التنافس بين البائعين والسائقين. والأولية لسكان رفح ليس مصدرها عرفياً، بقدر أن ما يعطي الشرعية لابن رفح هو سلاحه الحربي الذي يخرجه من حقل مجاور معلناً “هنا مفيش حكومة”.
على الناحية الأخرى.. يخرج بعض سكان غزة من القطاع مرافقين لذويهم الجرحى، أو لزيارة أقارب لهم في مصر. وبقدر ما يقعون تحت ضغوط السماسرة والسائقين، بقدر ما يكونون متلهفين للقاء هؤلاء الشباب المنتظرين أمام المعبر منذ أيام آملين بتحدي بعض الصواريخ الإسرائيلية.
أحمد الخطيب، أحد سكان القطاع، عبر للجانب المصري مرافقا أخيه الأصغر الذي تلقى شظايا بترت ساقيه.. فقصدوا مستشفى معهد ناصر لتركيب أطراف صناعية. بدأ أحمد وكأنه خارج لتوه من نزهة ما وليس من سجن كبير يتلقى مئات الصواريخ على مدار الساعة. يندهش لاستغراب الناس منه، “الحرب الأخيرة وقع منّا شهداء كثر. وتلقينا خمسة أضعاف الغارات التي نتلقاها هذه المرة. لكن لا يدرك أحد معنى أن الشباب ضربوا تل أبيب. الإسرائيلي خايف، مش احنا بس الخايفين”.
الإجابة الوحيدة لدى الخطيب على كل الأسئلة التي انهالت عليه، مبتسماً، “انت إيششايف؟”. مؤكدا أن أهل غزة هذه المرة يشعرون بفارق. “عندما رأينا المصريين وكأنهم يتنزهون في شوارع الرمال وتل الهوى ويفترشون الأرض ليأكلوا ويشربوا تحت القصف.. فهل تتوقع شعوراً آخر لأهل غزة غير فرحهم ودهشتهم من جنون الشباب المصري”. مضيفاً بإسهاب، أنه على الرغم من إمكانية العبور من المعبر هذه المرة إلا أن المفرح أكثر بالنسبة له أن يرى المتضامنين مصرّين على الدخول حتى من الأنفاق “فالذي يمر من نفق يأتي حاملاً كفنه على يده.. لا ليأخذ صورة له في القطاع موشحاً بالكوفية كما فعل الديبلوماسيون المصريين والعرب والأجانب”.
عمر سعيد – السفير اللبنانية.
صحافي من مصر