كعادتها فشلت إسرائيل ومعها خيار الحرب، وخيار القوة العسكرية في وضع حد للصراع وإلحاق هزيمة بالشعب الفلسطيني ومقاومته. والفشل واضح فالحرب ومهما كانت نتائجها المدمرة لن تقتلع جذور الشعب الفلسطيني الراسخة في أعماق الأرض الفلسطينية. ولقد استذكرت وأنا أتابع وأعيش هذه الحرب التي عاشتها غزة من شهداء أطفالها ونسائها ومسنيها ومنازلها، ومساجدها، والهلع والخوف الذي كان يتسرب داخل شرايين الأطفال مع كل صاروخ يطلق، عبارة شهيرة للرئيس الأمريكي الاسبق جون كيندي يقول فيها: على الإنسانية أن تضع حدا للحرب وإلا فإن الحرب ستضع حدا للإنسانية.
هذا ما حدث فعلا في غزة على مدار ثلاثين يوما من الحرب المدمرة لكل أمل في السلام. والتي غابت عنها الإنسانية. لقد أثارت هذه العبارة لديّ العديد من التساؤلات، على مستوى كل الأطراف المباشرة، وغير المباشرة، وعلى طرفي الصراع الرئيسيين الفلسطينيين والإسرائيليين، وعلى مستوى الإنسانية كلها.
ماذا ينتظر الجميع من الإستمرار في الصراع، وفي الحرب كخيار فشل في حسم الصراع؟ ماذا ينتظرون بعد هذه الحرب التي دمرت وقتلت الآلاف من الأبرياء والمدنيين وهي بحق حرب ضد الإنسانية، لقد قرأت عن حروب كثيرة، وعشت معظم الحروب التي شهدتها المنطقة، لكن مثل هذه الحرب لم أجد مثيلا لها في التدمير وقتل المدنيين وخصوصا الأطفال، الا يكفي الحروب التي إندلعت منذ نشوء القضية الفلسطينية، الا يكفي حرب 48 والتي كانت سببا في نشوء القضية الفلسطينية وتشريد الفلسطينيين في مخيمات الذل والإهانة والقتل، وحرب 67 التي إحتلت إسرائيل فيها كل الأراضي الفلسطينية وسيناء والجولان 67، وحرب 74 التي أعاد فيها الجيش المصري قدرا من الكرامة العربية الضائعة. وحروب لبنان، وحروب غزة التي ما زالت مستمرة حتى اليوم. الا يكفي للفلسطينيين ما عانوه على مدار اكثر من ستين عاما؟ والا يكفي التشريد والتشتت، والحصار، والخوف الذي يعيش فيه آطفالهم، ألا يكفي الوقوف على منافذ وحواجز الذل والإنتظار؟ أنت فلسطيني إذن أنت ممنوع من الدخول.
لقد سألتني فلسطينية من لاجئي سوريا عام 1948 هل تدلني على دولة تسمح أو تمنح تأشيرة دخول للجواز الفلسطيني، وبكل مرارة غياب المواطنة المحروم منها الفلسطيني قلت لها لا يوجد، حتى التفكير في العودة لأرض الوطن يحتاج إلى موافقات كثيرة فلسطينية وغير فلسطينية.
ألا تكفي هذه الصورة من الإحساس بإهانة الآدمية الإنسانية كلها مجسدة في هذه اللاجئة الفلسطينية. الا يكفي أن يعيش الفلسطينيون على المنح والهبات.
لقد حان الوقت كي يعيش الشعب الفلسطيني بلا خوف، وبلا حروب، وأن يعيش في كنف دولة تمنحه لكرامة والآدمية الإنسانية، وأن يتحرر من قيود الاحتلال. وأن يفتخر انه مواطن فلسطيني وأن يفتخر بمقاومته، ولا يخشى من تقديم جواز سفره في أي مطار من مطارات العالم.
وعلى الجانب الإسرائيلي ماذا تنتظر إسرائيل؟ هل ستبقى تعيش على القوة والتفكير في خيار الحرب؟ لا توجد دولة في العالم تعيش على الحرب والقوة، وهل سألت إسرائيل نفسها: هل حققت امنها بالحروب التي دفعت نفسها إليها، وكم من المليارات التي خصصتها للحرب، وتطوير قدراتها العسكرية؟ ولتدرك إسرائيل إن بقائها وأمنها من بقاء وأمن الشعب الفلسطيني، الا يكفي إسرائيل أن تصبح دولة مقبولة عربيا، ولها علاقات عادية مع كل الدول العربية، وأقولها بصراحة وبوضوح أن إسرائيل لم تعد ملفوظة عربيا، بل إن العديد من الدول العربية تقبل بوجود إسرائيل وتعترف بها كدولة، ولا تفكر في الحرب معها على الإطلاق.
ألا يكفي ذلك لنبذ الحرب؟ وعلى إسرائيل أن تدرك أن هذه هي لحظات صنع السلام في المنطقة وإذا لم تتخلى عن خيارات الحرب والقوة فستبقى تدور في حلقة مفرغة من العنف القاتل.
وماذا تنتظر الولايات المتحدة؟ هل تنتظر مزيدا من الكراهية والحقد لوجودها ولمصالحها في المنطقة؟ أليست معنية بالسلام والإستقرار في المنطقة؟ الم يقل الرئيس أوباما انه سيعمل على نبذ الحرب؟ اليست تريد مصلحة إسرائيل؟ اليست معنية بأمن وبقاء إسرائيل؟ ولكن هل البقاء وهذه المصلحة تأتي عبر الحرب؟ الا يتحمل المواطن الأمريكي عبئا كبيرا من المساعدات التي تقدمها لإسرائيل؟
وماذا ينتظر العرب؟ هل تبقى المنطقة العربية منهكة القوى، ومستهدفة في مواردها؟ وهل كتب عليها ان تبقى تابعة لغيرها؟ وهل تدرك إن دولا كثيرة أقل منها في الموارد مثل نيجيريا وأثيوبيا وأفغانستان بدأت تحقق معدلات نمو متصاعدة؟
لا يكفي إن تقول الدول العربية لدينا مبادرة سلام وتسكت، عليها إن تمارس كل قوتها ايضا من أجل صنع السلام.
وماذا تنتظر اوروبا التي ترتبط مصالحها بدول المنطقة، وهي من تتحمل مسؤولية أخلاقية كبيرة في نشوء القضية الفلسطينية، هل تكتفي بدور المانح للمساعدات تكفيرا عن مسؤوليتها؟ وهل تكتفي أن يكون له دورا تابعا للولايات المتحدة؟ تقع عليها مسؤولية كبيرة في وقف خيار الحرب، وممارسة دورها في الضغط على الإسرائيليين لأنهم يملكون القوة لوقف الحرب والقوة وإنهاء الاحتلال، وإعطاء الفلسطينيين حقهم في قيام دولتهم المستقلة، والمساهمة عندها في بناء دولة ديموقراطية تسعى للتنمية والتقدم، وتعويض شعبها الحرمان. إنها مسؤولية الجميع في صنع السلام، وإذا كان الطرفان الفلسطيني والإسرائيلي غير قادرين على وضع نهاية لأطول صراع دموي في العالم، فعلى هذه الدول كلها مسؤولية مشتركة لفرض رؤية متوازنة للسلام تحقق العدل والتكافؤ في الحقوق، وإلا فإن الحرب القادمة لن ينجو منها أحد وستكون حرب الكل ضد الكل، وكما قال جون كيندي ستضع نهاية للإنسانية كلها.
وبقي أن يسأل الجميع نفسه: كم من المليارات أنفقت في الحروب العربية الإسرائيلية، وبسبب استمرار الصراع؟ ولو إن هذه المليارات كرست في بناء السلام بمعنى المشاريع التنموية، ومحاربة الفقر، وبناء مشاريع مشتركة، لانتفت كثير من مبررات الصراع ولوجدت كثيرا من القضايا طريقها للحل، ولتحولت القدس عاصمة للسلام، وحوار الأديان ولانتفت الذرائع الأمنية، ولما عاد للحدود من دور في ظل التكامل في المشاريع.
لا يملك الفلسطينيون والإسرائيليون إلا خيارا واحدا وهو خيار البقاء والبحث عن صيغة مشتركة على أرض السلام. هذا هو الدرس الوحيد لحرب غزة.