لطالما ظل يقال لنا طوال العديد من السنوات الآن، إن الحرب أصبحت شأناً ينتمي إلى الماضي. وتم نشر الإحصائيات التي تقيس الانخفاض في الوفيات الناتجة عن الحرب، وكُتبت الأوراق عن الشكل المتغير للصراعات. وفي الوقت الذي ما يزال فيه العالم مكاناً يمور بالفوضى، أكدوا لنا أن تهديد الحرب الباردة القديمة، وخطر تصادم القوى على نحو يفضي إلى قيام حرب عالمية وإبادة نووية، أصبحت كلها وراءنا.
لكن هذا ليس واقع الحال. ففي هذه الأوقات، في الذكرى المئوية لبداية الحرب التي كان ينبغي أن تضع نهاية لكل الحروب، يمكن أننا أصبحنا مرة أخرى على منحدر زلق يفضي بنا إلى ما يبدو شبيهاً بالحرب العالمية القديمة.
مثلما كان الوضع قبل قرن مضى، يبدو أن كل شيء يدور الآن حول إعادة رسم الخرائط وإعادة ترتيب الدول. وتماماً كما كان الأمر حينذاك، عندما تصور الناس أن المشكلات والمتاعب المحلية سوف تبقى على حالها، يتم الآن تجاهل احتمال نشوب حريق أكبر بكثير. وقد أصبح الناس “سائرون في نومهم”، كما وصف الكاتب كريستوفر كلارك الدول الأوروبية في العام 1914.
تبدو القوى الكبرى اليوم وأنها تتعامل بنفس الغفلة والتجاهل مع مخاطر نشوب أزمات أكبر وأوسع إطاراً، والتي تنجم من الشرق الأوسط. ويسمح التفكيك المفاجئ للحدود القديمة التي كانت قد رسمتها القوى العظمى قبل قرن، لما كان ذات مرة حركات تمرد محلية، بإمكانية امتلاك القدرة على احتلال الأراضي وتهديد سلامة الدول الراسخة.
على هذا النحو، أصبح المتمردون السنة في غرب العراق متصلين بالحرب الأهلية المتمددة في سورية، بكل تجلياتها العصبوية والطائفية، وهو ما سمح للأكراد بدورهم بأن يقيموا شبه الدولة بكل همة. وينطوي هذا الواقع على مخاطر فتح الطريق لعصر جديد من المغامراتية الفارسية، ويدفع بالتهديد المقابل المتمثل في استخدام إسرائيل الأسلحة النووية، خطوة أخرى أقرب إلى التجسد.
سوف يتم اختبار النفور الغربي من التدخل في هذه العودة إلى الجغرافيا السياسية للعصور القديمة. وسوف يؤدي انصراف الانتباه، على الأقل، إلى ترك شرق آسيا في حالة من الخصومات والتوترات التي لا يهتم بضبطها أحد. ويقوم تخلي الصين عن صعودها السلمي، والمتجسد في شكل تأكيدها الجريء على مطالبها الإقليمية واسعة النطاق في بحر الصين الجنوبي، بتوليد التوتر مع اليابان، وهو ما قد يدفع اليابان في القريب إلى تفكيك القيود الدستورية الموضوعة على قواتها المسلحة، والقائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وفي الوقت نفسه، تهدف حكومة أغلبية أكثر رجعية في الهند إلى قرص ذيل التنين في منطقة جبال الهيمالايا.
الآن، تؤدي سخونة الأجواء في الشرق الأوسط وشرق آسيا إلى الحد بشدة من قدرة الولايات المتحدة وأوروبا على التعامل مع النزعة التوسعية الروسية في آسيا الوسطى. وليس هناك شيء تقريباً يوقف ضم روسيا البطيء لشرق أوكرانيا، وهو ما سيؤدي من دون شك إلى تشجيع فلاديمير بوتين على استخراج تصميمه الكبير لروسيا أكبر حجماً.
كل هذا يعني بشكل حتمي أن لا يكون هناك توقف لتقدم القبائل غير المروضة في كل من أفغانستان والباكستان. وسوف يستمر كل من هذين البلدين المثقلين بالأزمات والصراعات في أن يشكل بوتقة لتصنيع المتشددين الذين قسّتهم المعارك، والذين سيشقون طريقهم إلى صفوف الجيوش “الإسلامية الجديدة”، التي تشق طريقها بدورها بالنهب والقتل عبر ميادين المعارك الصليبية القديمة للعراق وسورية الكبرى. وليس من المفاجئ في هذه الأحوال أن يكون عدد اللاجئين في العالم قد تجاوز الآن 50 مليون إنسان، وهي المرة الأولى التي يكون فيها الرقم أعلى مما كان عليه في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية مباشرة.
يشير هذا النسيج القاتم من الصراعات إلى إعادة انبعاث التنافس بين القوى العظمى والصراعات بين الدول، والتي تبدو الهيئات الحالية متعددة الأطراف، مثل الأمم المتحدة، سيئة التجهيز تماماً لإدارتها. وليس السماح للحرب الدائرة في سورية بالتصعيد والامتداد إلى العراق بسبب الخلافات المستعصية بين إيران، والعربية السعودية، وروسيا والولايات المتحدة، سوى إخفاق دبلوماسي بحت، يقف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عاجزاً أمام حله.
كانت الطلقات النارية التي أطلقها قومي صربي في شارع مشمس في سراييفو في العام 1914 قد أفضت إلى قيام الحرب العظمى الأولى في غياب إرادة جمعية فعالة لإدارة الأزمة. وقد تصارعت القوى الأوروبية مع التأثير العشوائي لأعمال المعتصبين والفوضى التي ارتكبتها جماعات مثل “الكف الأسود” في العقد الأول من القرن العشرين، تماماً كما تتصارع هذه القوى اليوم مع الإسلامويين المتطرفين في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. غير أن “القاعدة” وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام “داعش” الحاضرة اليوم، هي أكثر تهديداً؛ إن هذين التنظيمين يستطيعان إضعاف دول، وجر القوى العظمى إلى خضم الصراع.
في التصور المثالي، يحتاج العالم الآن إلى رؤية ملهمة وإلى قيادة قادرة على تطبيقها. وقد شهدت نهاية كلتا الحربين العالميتين حدوث ذلك. وكانت معاهدات فرساي ويالطا قد أُبرمت بدافع الضرورة. لكن الأواصر الحيوية اللازمة لتزويد العمل الجماعي بالعمل ضمرت بعد 70 عاماً من السلام النسبي.
لقد أصبح العالم مكاناً متشظياً، والذي يبدو في الظاهر أثر تقارباً بفعل التجارة والتقنية، لكنه في الحقيقة مقسم إلى وحدات ذرية بحيث يقف عاجزاً عندما يأتي الأمر إلى معالجة التحديات العالمية الحرجة، مثل البيئة أو القضايا الملحة مثل الاستعباد الجنسي.
هذا هو السبب في أن الإحصائيات المتفائلة عن الصراعات تبقى مضللة. ربما لا يكون القتل الراهن بنفس النطاق الذي كان عليه خلال القرن المنصرم، لكن العالم ربما يكون معرضاً لشيء يقترب من نفس المستوى الكارثي من الاضطراب، إلا إذا قمنا بدفن انشغالاتنا الأنانية، وشرعنا في العمل معاً بشكل حقيقي.
الغد الأردنية