في وقت تواجه فيه البلدان العربية تحديات اقتصادية جسيمة، تبرز الحاجة الملحّة إلى الإصلاح السياسي حيث أنّ الإصلاحات الاقتصادية لا يمكن أن تنجح بمعزل عن التحولات السياسية، بل يجب أن تتم بالتوازي معها وأن تعود بالنفع على كل شرائح المجتمع وتحظى بتأييد الجميع.
في وقت تواجه فيه البلدان العربية تحديات اقتصادية جسيمة، من السهل أن ننسى أن عدداً كبيراً من هذه البلدان كان في موقف مماثل – أو أسوأ منه – منذ وقت غير بعيد. وحتى تنجح المنطقة في معالجة البطالة وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتعزيز النمو الاقتصادي، يجب أن يستقي القادة دروساً من تجارب الماضي القريب.
وتطرح تلك الدروس خمس قواعد للنجاح. فالإصلاحات الاقتصادية لا يمكن أن تنجح بمعزل عن التحولات السياسية، بل يجب أن تتم بالتوازي معها وأن تعود بالنفع على كل شرائح المجتمع وتحظى بتأييد الجميع. كذلك ينبغي أن تكون هذه الإصلاحات قابلة للقياس الكمي بناءً على هدف واضح. وأخيراً، يتعين الحرص على التواصل بشأن خطط الإصلاح الاقتصادي.
لا جديد تحت الشمس
ليس هذا هو أول اختبار حاسم تمر فيه بلدان التحول العربي، ولا هو أول ظهور للإصلاحات الاقتصادية الحيوية.
فقد خاضت مصر والأردن، على سبيل المثال، أزمات اقتصادية مماثلة منذ 20 عاماً كانت أسوأ في بعض الجوانب مما يواجهانه اليوم. ففي أواخر الثمانينات بلغ عجز الموازنة في مصر حوالى 20% من إجمالي الناتج المحلي، كما بلغ معدل التضخم 20% منه أيضاً – وكلاهما ضعف المستوى المسجل اليوم. وكانت نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي في مصر 76.5%، وهي نسبة تكاد تتطابق مع النسبة الحالية التي تبلغ 76.4%، بينما سجل الأردن نسبة دين مذهلة بلغت 132%، مقارنة بنسبة تقديرية قدرها 65% حالياً. وشهدت احتياطيات النقد الأجنبي هبوطاً شديداً في عامي 2011 و2012 في البلدين، لكنها أوشكت على النفاد في الأردن في عام 1988.
وعلى مدار العقدين الماضيين بذلت مصر والأردن جهوداً جادة في الإصلاح الاقتصادي. فتم توقيع اتفاقيات مع صندوق النقد الدولي وخصخصة العديد من الصناعات المملوكة للدولة. وانضمت مصر إلى عضوية منظمة التجارة العالمية في عام 1995، وتلاها الأردن الذي أصبح عضواً في المنظمة عام 1999، ووقع اتفاقية للتجارة الحرة مع الولايات المتحدة في عام 2000. كذلك وقع البلدان اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الأوروبي.
ونتيجة لذلك استطاعت مصر والأردن تحقيق نمو قوي طوال فترة ممتدة منذ عام 2000 وحتى وقوع الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وبالرغم من هذه الإنجازات، ظل المواطن العادي في البلدين يشعر بالإحباط تجاه عملية تفتقر إلى الضوابط والتوازنات، أصبح لا يجد فيها أي رقابة تذكر- وتجاه نمو لم يلمس تأثيره في حايته اليومية. فأين كان الخطأ؟
الخبز قبل الحرية
حتى اندلاع الانتفاضات في عام 2011، كان القادة العرب يرون أن الإصلاح الاقتصادي يجب أن يسبق الإصلاح السياسي. وهو ما يسمى بمنهج “الخبز قبل الحرية”. وفي هذا السياق، كانوا يقولون إنه من السابق لأوانه، بل من الخطورة بمكان، إجراء إصلاح سياسي قبل توفير الاحتياجات الأساسية للمواطنين، وإن الناس لا يمكنهم اتخاذ قرارات سياسية مسؤولة قبل استيفاء هذه الاحتياجات. لكن تلك الاستراتيجية لم تنجح على النحو الذي كان مخططاً لها، حتى عندما طُبِّقَت بنيّة حسنة.
وقد حافظ هذا المنهج بالفعل على استقرار الاقتصاد الكلي – ما يساعد الفقراء الذين هم أول المتضررين من بيئة التضخم والنمو المنخفض – لكنه فشل في تحقيق نمو شامل لكل المواطنين أو معالجة الفساد الذي تضاعف في غيبة الإصلاح السياسي الموازي.
وفي الإغلب الأعم من الحالات، نجد أن التحرير الاقتصادي – الذي لم يقتصر على الخصخصة وتحرير التجارة، بل امتد إلى اعتماد قوانين استثمارية أكثر تحرّراً وتعزيز الاندماج في الاقتصاد العالمي – فشل في تحقيق الإصلاح السياسي أو الاقتصادي. فنظراً إلى أن التدابير الاقتصادية اللازمة لم يصاحبها وضع نظام سياسي للضوابط والتوازنات، ظلت التجاوزات التي تصدر عن الأطراف الفاعلة في الاقتصاد، من دون أي ضابط، وكان الإفلات من العقاب هو القاعدة.
ونتيجة لذلك، كان عدد كبير من برامج الإصلاح الاقتصادي يؤتي ثماره لصالح نخبة صغيرة فحسب ولا يصل إلى عامة المواطنين. وأدى تركّز ثمار الإصلاح في يد مجموعة صغيرة من السكان إلى وضع مزيد من العراقيل أمام تأثير جهود الإصلاح على الاقتصاد. ومع عدم وجود برلمانات قوية تستطيع ممارسة الرقابة الملائمة، غالباً ما كانت خصخصة الكثير من الصناعات المملوكة للدولة تتم بغير شفافية كاملة وتتسبب بتصوّرات وجود الفساد، الأمر الذي كان يستند إلى مبررات وجيهة في الغالب.
ومن الصعب تشجيع الاستثمار الأجنبي ما لم يكن هناك نظام قضائي مستقل لمعالجة الشكاوى على النحو الواجب. كذلك يصعب الحد من الفساد الذي يلتهم الإنتاجية من دون وجود صحافة مستقلة أو نظام برلماني قوي. وطبقاً لمؤشر مدركات الفساد (CPI) التابع لمنظمة الشفافية الدولية، انخفض ترتيب الأردن من المرتبة 37 (بين 178 بدلاً) إلى المرتبة 58 (من بين 176 بلداً) بين عامي 2003 و2012. أما ترتيب مصر فقد تراجع من 70 إلى 98 بين عامي 2003 و2010 – أي قبل الثورة مباشرة.
الإصلاحات الاقتصادية يجب أن تتم بالتوازي مع التحولات السياسية، ويجب أن تعود بالنفع على كل شرائح المجتمع وتحظى بتأييد الجميع.
وعلى الرغم من الاختلاف الكبير بين مطالب المتظاهرين داخل البلد الواحد في منطقة الشرق الأوسط وعبر بلدانها، فقد كانت محاربة الفساد قاسماً مشتركاً بينها. وبالإضافة إلى المطالبة بمعاقبة الفاسدين، دعت الانتفاضات الشعبية إلى إجراء تغيير مؤسسي لاستئصال جذور الفساد. وكان رأي المحتجين أنه يمكن تحقيق الرقابة الملائمة عن طريق الإصلاح السياسي الذي جرد الفرع التنفيذي المسيطر من صلاحياته وأعاد توزيعها على الفرعين التشريعي والقضائي.
وكان رأي أغلبية النخبة في مصر والأردن وفي أنحاء العالم العربي أن البرلمانات النيابية القوية لا تفهم الإصلاح الاقتصادي وأنها بمثابة عائق أمام التنمية الاقتصادية – وليست شريكاً فيها. وبناءً على ذلك، وُضِعَت قوانين الانتخابات في مصر والأردن وغيرهما بحيث تنتج برلمانات ضعيفة هيكلياً تعتمد على السلطة التنفيذية وتخضع لها ولا تستطيع معارضة سياساتها – بما فيها السياسات والممارسات الاقتصادية في العقيدن الماضيين.
وكان من المعتاد بالنسبة إلى المواطن العادي أن يعتمد على حكومته في تلبية بعض احتياجاته الأساسية. ولم يكن هناك هيئة تشريعية قوية تناقش قرار الحكومة بيع أصول الدولة أو رفع الدعم أو الحفاظ على سياسات التجارة الحرة التي كان البعض يعتبرها ضارة بالصناعة المحلية. ولو أن نقاشاً جاداً كان يدور حول هذه القرارات، لكان من شأنه إظهار شفافيتها ومناط المسؤولية عنها، وطمأنة المواطن العادي إلى أنها في صالحه.
ولكن من الواضح أن الإصلاحات الاقتصادية أخفقت في الماضي – مهما حسن تصميمها أو بلغت أهميتها – لأنها كانت تتم بشكل منفصل، من دون إصلاحات سياسية موازية. فغالباً ما كانت الحكومات تعتبر هذه الإصلاحات غير ذات ضرورة، بل ضارة بمسيرة تحرير الاقتصاد التي كانت تخشى تعطلها في وجود برلمان قوي.
إن المشكلات الاقتصادية في العالم العربي لا يمكن حلها عن طريق وصفات السياسة الاقتصادية القائمة على السوق التي تركز على النمو ولكنها تتجاهل الإصلاح السياسي وتعجز عن تحسين حال الأقل حظاً. وقد اتسعت الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المنطقة على مدار العقدين الماضيين وتفاقمت مع ما شهدته السنوات القليلة الماضية من تصاعد أسعار الغذاء والطاقة ووقوع الأزمة المالية العالمية. وأوضح مثال لفجوة الدخل المتزايدة هو المُشاهَد في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المستوردة للسلع الأولية (بما فيها الغذاء والطاقة).
والفشل الذي لقيه في الشرق الأوسط ما يسمى “توافق واشنطن” بشأن الإصلاحات القائمة على السوق هو فشل بسبب القصور. فالسياسات القديمة لم تكن بالضرورة خاطئة، ولكنها بالأحرى غير كافية، إذ تجاهلت الاعتماد المتبادل بين التنمية السياسية والاجتماعية. فإذا كان من المتعذر تطبيق السياسات القديمة على معطيات واقعنا الجديد، فكيف ينبغي للبلدان أن تمضي في هذا المسار؟
صفحة من كتاب القواعد
يتعين أن تلتزم الإصلاحات المستقبلية في البلدان العربية بمجموعة من القواعد:
القاعدة رقم (1): لن ينجح الإصلاح الاقتصادي من دون أن يصاحبه إصلاح سياسي مواز
إن الحلول الاقتصادية البحتة لا تكفي لمواجهة التحديات الاقتصادية.
فعندما تعرض الأردن في عام 1988 لأزمة اقتصادية حادة أسفرت عن خفض قيمة عملته أمام الدولار الأميركي بواقع 50% خلال يوم وليلة تقريباً، وجد الملك الراحل حسين نفسه في مواجهة عجز حكومي كبير واحتياطيات أجنبية هزيلة. وكان الحل الذي توصل إليه حلاً سياسياً إلى حد كبير؛ فقد دعا إلى إجراء انتخابات شاملة منحت البلاد أول برلمان نيابي منذ أكثر من ثلاثة عقود. ونجح هذا الحل.
فلم يقتصر الأمر على تجاوز الأردن أزمته الاقتصادية، بل استطاع البرلمان الجديد، رغم وجود معارضة شديدة من التيار الإسلامي، إقرار برنامج اقتصادي يدعمه صندوق النقد الدولي والعديد من الجهود الرامية إلى تحرير الاقتصاد، ما تمخّض عن ارتفاع معدلات النمو في أوائل التسعينات. وقد ألحقت حرب الخليج الأولى ضرراً بالغاً بالبلاد حين توقفت كل المعونات العربية والأميركية بعد معارضة الأردن دخول قوات أجنبية إلى المنطقة، ولكن الشوارع لم تشهد اي احتجاجات في ذلك الوقت، حيث كان المواطنون يشعرون بأن أصواتهم مسموعة من خلال البرلمان وأنهم طرف أصيل من ذوي المصلحة.
وسرعان ما نسيت بلدان المنطقة هذا الدرس، ومنها الأردن الذي ساهمت اتفاقيته للسلام مع إسرائيل بعد ذلك ببضع سنوات في اتخاذ قرار بتأخير الإصلاح السياسي. وهكذا شهد العقدان الماضيان تعطل الإصلاح السياسي وما استتبعه من عواقب كارثية واضحة. ولما كانت بلدان المنطقة تواجه الآن أزمات اقتصادية مماثلة – تفاقمت بسبب ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة ووقوع الأزمة المالية العالمية التي لا تزال مستمرة – فليس بإمكانها حل مشكلاتها بمجرد اتخاذ تدابير صارمة مثل إلغاء الدعم أو إعادة توجيهه. ذلك أن الشعوب لم تعد مستعدة لتحمّل سلطة تنفيذية متسلطة تتخذ قرارات أحادية من شأنها زيادة سوء أحوالها المعيشية القاسية.
ويتوقع الآن الناخبون العرب سياسة اقتصادية تقضي بالتشاور مع الشعب الذي يتأثر بها، وتتم متابعتها من خلال برلمانات قوية منتخبة ومسؤولة.
ففي مصر، لم تتمكن الحكومتان الانتقاليتان اللتان أعقبتا الإطاحة بالرئيس حسني مبارك من توقيع اتفاق مع صندوق النقد الدولي للحصول على القرض الذي تحتاجه البلاد بشدة، وهو ما يرجع تحديداً إلى كون الحكومتين غير منتخبتين وتخوفهما من رد الفعل الشعبي. وعلى العكس من ذلك، نجد أن الحكومة التي تشكلت بعد انتخاب محمد مرسي مرشح الإخوان الرئاسي تجري الآن مباحثات لعقد اتفاق مالي مع الصندوق الذي يُنظَر إليه في مصر بارتياب منذ فترة طويلة.
وقد تعلم الصندوق نفسه من أخطائه السابقة. فالاتفاقات المالية التي عقدها مع بلدان في المنطقة منذ الصحوة العربية تركز على البرامج الوطنية التي كان للحكومات الجديدة المنتخبة إسهام كبير في محتواها. وبالإضافة إلى ذلك، تؤيد هذه الاتفاقات الدعم الموجه لمستحقيه بشكل أفضل كما تؤيد إصلاح نظام الدعم وتشدد على أهمية شبكات الأمان الاجتماعي القوية، وخلق فرص العمل، وتوزيع الدخل على نحو أكثر إنصافاً، وتحسين نظام الحوكمة.
ولكل الحكومات المنتخبة مصلحة أساسية في أن تعالج مشكلات بلدانها الاقتصادية بنجاح وتثبت للناخبين أنها قادرة على تحقيق مستوى أعلى من الرخاء. ويعني هذا أن المؤسسة الحاكمة أو النخبة السياسية لا يمكنها استخدام الخوف من الإسلام كذريعة لإعاقة التقدم السياسي اللازم لدعم الإصلاحات الاقتصادية. فليس هناك ما يستدعي الخوف من الإسلاميين على الصعيد الاقتصادي. ففي مصر على سبيل المثال، قدم حزب الحرية والعدالة، رغم افتقاره إلى الخبرة الكافية، برنامجاً اقتصادياً ينبغي ألا يثير أي قلق من جانب غير الإسلاميين أو المجتمع الدولي. ذلك أن برنامج الحزب يقر بأهمية الملكية الخاصة ودور القطاع الخاص واقتصاد السوق الذي يركز على العدالة الاجتماعية في إطار الشريعة الإسلامية والحاجة إلى الاستثمار المحلي والأجنبي. وربما تكون التحديات الاقتصادية التي تواجه الشرق الأوسط حافزاً لإجراء الإصلاح السياسي اللازم، إذ أنها تسلط الضوء على ضرورة أن تتخذ الحكومات المنتخبة قرارات اقتصادية صعبة.
القاعدة رقم (2): يجب أن تكون سياسات النمو أكثر شمولاً
يتعين على القادة الجدد توخي الحذر من أن يكون الانتفاع بالنمو مقصوراً على نخبة صغيرة وأن تركز الإصلاحات الاقتصادية على حل مشكلات بعض شرائح المجتمع دون غيرها. فالأمر يتطلب منهجاً جديداً للتنمية الاقتصادية في المنطقة، نظراً إلى مطالبة الشعوب بتحقيق تحسن فوري – من حيث خلق فرص العمل وتحسين الأجور وإقامة العدالة الاجتماعية – بعد الثورات التي حدثت في مصر وليبيا وتونس وغيرها من البلدان.
وكانت الإصلاحات الاقتصادية السابقة في المنطقة قد أدت إلى نمو لم يتسرب تأثيره بالتدريج ليصل إلى المواطن العادي. بل إن التغييرات كثيراً ما تسببت في توسيع الفجوة بين الأغنياء والفقراء بدلاً من تضييقها. ويجب أن تشتمل الإصلاحات المستقبلية على مكون اجتماعي قوي يسمح للأقل حظاً بتحسين أحوالهم المعيشية، كما يجب أن يستهدف الدعم مستحقيه وأن تضع الحكومات استثمارات كبيرة في تحسين خدمات الصحة والتعليم للغالبية العظمى من المواطنين.
القاعدة رقم (3): يجب إعداد خطط الإصلاح الاقتصادي بمشاركة مجتمعية
كانت معظم عمليات الإصلاح في العالم العربي عمليات شكلية يحددها النظام – غالباً من دون استشارة أحد – ثم تنفذها الحكومة أو المؤسسات البيروقراطية من دون نقاش. وفي الأغلب الأعم من الحالات، كانت هذه العمليات الإصلاحية التي يقودها النظام غير كافية وتقوم على التقدير الاستنسابي ويشوبها الضعف في توصيل المعلومات ذات الصلة. وبدون تأييد القاعدة الجماهيرية، لا يمكن ترجمة أفضل النوايات الطيبة إلى تغيير حقيقي.
غير أن هذه المشروعات الإصلاحية الآتية من أعلى إلى أسفل تمكنت في بعض الأحيان من إحداث تغييرات اقتصادية كبيرة وتحقيق نمو اقتصادي مثير للإعجاب، مثلما حدث في تونس ومصر. ولكنها لم تغير الطابع السلطوي الذي تتسم به النظم الحاكمة، كما أنها افتقرت إلى استراتيجيات واضحة لتحقيق نمو أكثر شمولاً، ومن ثم ذهب معظم ثمارها الاقتصادية إلى النخبة من رجال الأعمال المحيطين بالنظام. ولم يفت ذلك على الجماهير العريضة، ما تسبب في مشاعر العداء والريبة العميقة تجاه تلك السياسات في معظم بلدان المنطقة.
وثمة مشروعات أخرى جاءت نتيجة اضطرابات اجتماعية وتضمنت إصلاحات سياسية محدودة. ومن هذه المشروعات، على سبيل المثال، ميثاق العمل الوطني في البحرين، الذي وُضِع استجابةً لمطالب شعبية بالتغيير، وتمت صياغته وتنفيذه كمبادرة ملكية من دون تشاور مع مختلف الأطراف الاجتماعية والسياسية المعنية. واشتملت هذه الإصلاحات التي شُرِّعَت في عام 2001 على إنشاء مجلسين برلمانيين (أحدهما معيّن والآخر منتخب) وتحويل البلاد بالتدريج إلى نظام حكم ملكي دستوري وراثي. وبالرغم من الأهداف السامية التي انطلقت منها هذه البرامج، فهي لم تنجح في تحقيق المرجو منها – إذ أن المجلس المنتخب لا يمارس صلاحيات تشريعية فعلية، والمملكة ليست ملكية دستورية بحق. ولا يزال الشعب البحريني مصاباً بخيبة أمل تجاه حكومته ويواصل المطالبة بالتغيير.
ويتضح من مشروعات الإصلاح التي تتولى وضعها وتنفيذها القيادة نفسها التي تحتاج إلى إصلاح أن الأمر يتطلب برامج تحقق التمثيل والتمكين الكافيين لكل القوى الأسياسية في المجتمع. فالإصلاح الذي لا يأخذ في الاعتبار وجهة نظر الأطراف المتأثرة به لن ينجح في أن يكون أو يُعتبَر إصلاحاً جوهرياً أو موثوقاً. ويتضح ذلك من الرفض الشعبي الذي لقيه القادة العسكريون في مصر بمجرد أن حاولوا إملاء قواعد اللعبة السياسية بعد سقوط حسني مبارك. ففي الشرق الأوسط الجديد، استيقظ المواطنون العرب بكافة انتماءاتهم السياسية وأصبح تغيير اللعبة هو موضع تركيزهم الحالي. وبينما يجري بناء المؤسسات السياسية السليمة، اكتشف المواطنون أن أصواتهم يمكن سماعها في الشارع.
القاعدة رقم (4): يجب أن تكون خطط الإصلاح الاقتصادي قابلة للقياس وتشير إلى هدف نهائي
غالباً ما كانت عملية الإصلاح في الماضي زاخرة بالوعود وقاصرة في التنفيذ. ومن خلال مجموعة واضحة من أهداف الأداء الشفافة والقابلة للقياس، يمكن التأكد من قيام الحكومات بالإصلاح فعلياً وأنها لن تلجأ إلى استخدام كلمات رنانة جوفاء.
وأثناء القمة التي عقدت في تونس في عام 2004، اتفق القادة العرب على وثيقة إصلاح تؤكد التزامهم بأمور عدة منها “توسيع المشاركة وصنع القرار في المجالين السياسي والعام؛ وتعزيز روح العدل والمساواة بين المواطنين كافة؛ واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير؛ وضمان استقلال القضاء؛ والسعي إلى النهوض بوضع المرأة في المجتمع العربي؛ والاعتراف بدور المجتمع المدني؛ وتحديث نظام التعليم”.
وبعد مرور سنوات عدة، لا يزال معظم هذه الوعود من دون تحقق، وهو أمر لا يثير الدهشة نظراً إلى عدم وجود آليات للتقييم يمكن من خلالها رصد ومتابعة التقدم نحو هذه الأهداف. فالجهود التي بذلت في وضع البرنامج الوطني الأردني لم تكتف بتحديد أهدافه النهائية، بل شملت معلماته الأساسية ومؤشرات أدائه وأطره الزمنية، لكنها لم تخضع للتنفيذ ولم يظهر مثيل لها في المنطقة. إن الكلمات الرنانة عن الإصلاح لم تعد مقنعة لأحد ما لم تحقق نتائج ملموسة في الواقع.
وينبغي أيضاً أن تتضمن خطط الإصلاح الاقتصادي توضيحاً للأهداف – مثل التوصل إلى موازنة متوازنة خلال عشر سنوات أو تغطية جميع المواطنين بنظام التأمين الصحي الوطني. فالمواطن يكون أكثر استعداداً لتقبل التضحيات قصيرة الأجل إذا كان الهدف منها واضحاً بالنسبة إليه. ويشعر معظم المواطنين في الشرق الأوسط بأن حكوماتهم لا تعمل إلا في سياق الأزمة؛ فهي تطلب من المواطنين أداء مدفوعات طائلة لتغطية التجاوزات الإدارية من دون مقابل في الأفق. وقد خرج الشعب الأردني مؤخراً، على سبيل المثال، في تظاهرات ضد رفع الدعم عن المحروقات لمواجهة ارتفاع أسعار الوقود الدولية. ذلك أنه يتعين إشعار المواطنين بأن لهم مصلحة حقيقية في القرارات المتخذة. وحتى إذا كان التغيير يستغرق وقتاً، فمن الضروري هيكلة السياسات المزمعة بحيث تؤتي بعض الثمار في السنوات الأولى وتشرك المواطنين في كل مرحلة على الطريق نحو هدف قومي واضح.
القاعدة رقم (5): يجب أن يكون التواصل أداة أساسية من أدوات السياسة
إن الأخذ بأسباب التواصل الحديثة والفعالة يجب ألا يكون بأي حال فكرة متأخرة في عملية الإصلاح، بل يجب أن يكون جزءاً لا يتجزأ من عملية التخطيط، بما في ذلك سياسات الإصلاح الاقتصادي العربية.
فلا يجوز أن يبدأ التواصل بشأن الإصلاح بعد الاتفاق عليه داخل الحكومة. إنما يتعين إعداد الإصلاحات بالتشاور مع البرلمانات والمجتمع المدني، وأن يعمل القادة على توصيل أهدافها بوضوح في كل خطوة على الطريق. أما إبقاء هذه البرامج في إطار السرية، مثلما يحدث كثيراً بالفعل في بلدان الشرق الأوسط، فلا يؤدي إلا إلى تعميق الشكوك طويلة الأمد لدى الجماهير وغالباً ما ينشئ شعوراً بالعداء الصريح تجاهها. ومهما كانت صعوبة التواصل، فيجب أن يكون أداة من أدوات السياسة – تستخدم في مرحلة مبكرة للغاية- إذا كان لها أن تحقق أي نجاح في كسب تأييد الشعوب.
التغيير لازم
وسوف تنجح عمليات الإصلاح الاقتصادي في الشرق الأوسط، ولكن إذا تجنبت الاعتماد على نماذج العقدين الماضيين. والبرامج الاقتصادية يحب أن تتضمن عناصر سياسية أيضاً حتى تكلل بالنجاح، كما يجب أن تكون قابلة للقياس وواسعة النطاق وشاملة للجميع – وأن تقدم ضمن خطة عامة بمشاركة المجتمع المدني. ولا يمكن إملاء مبادرات الإصلاح من أعلى؛ بل يجب أن توافق عليها الحكومات المنتخبة. وأخيراً، يجب أن ترتكز على فهم للروابط بين أوجه البرنامج كافة. وهذا هو السبيل الوحيد لوضع وتطبيق منهج شامل يعالج العناصر السياسية والاقتاصدية متعددة الأوجه في آن واحد، مع السعي نحو أهداف قابلة للتحقيق.
وقد حفزت الصحوة العربية المواطنين على توقع المزيد من حكوماتهم. وما لم يتحقق المزي من الرخاء لعدد أكبر من سكان المنطقة، فسوف تتعطل مسيرة التغيير الساسي. وفي الوقت نفسه، لن ينجح التغيير الاقتصادي من دون تمكين المؤسسات الرئيسة اللازمة لتيسير وجود عمليات اقتصادية أكثر كفاءة وشفافية، وتوفير الدعم المطلوب لها. إن العناصر السياسية والاقتصادية يجب أن تعمل على التوازي حتى تتحرك المنطقة إلى الأمام.
مركز كارينغي للشرق الاوسط