لم يكن قد مضى في سبعينيات القرن الماضي، على وجود أي رئيس جمهوري عربي سوى سنوات قليلة (باستثناء الحبيب بورقيبة ربما). وكانت الأحزاب العربية القومية وحتى الوطنية، تلتحق تباعاً بركب الاشتراكية واليسار، وبدا دور الإسلاميين محدوداً، وإن كان في صعود حينها. وبدا كل هؤلاء وأحزابهم وشعاراتهم أملا يمكن المراهنة عليه. لكن ما إن انتهت التسعينيات، حتى كانت الجمهوريات قد تحولت إلى جمهوريات وراثية، فيما وصل الإسلاميون الذروة الجماهيرية والشعبية، وبدأوا الانحدار. وكان هذا يطوي معه أيضاً الأحلام الفاضلة والمثالية والثورية، وبدا الأميركيون قادة الدعوة للتغيير في الشرق الأوسط، وصارت منظمات المجتمع المدني تحتل مكان الأحزاب، قبل أن يهزم هؤلاء أيضاً، ويتراجعوا، وينسحبوا. وكان كل هذا نتاج عوامل موضوعية ذاتية، وأخرى معولمة.
كانت العوامل الموضوعية هي أن الرؤساء في سورية، والعراق، وليبيا، وتونس، والجزائر، وغيرها، تحولوا إلى حكام مطلقين دكتاتوريين، دائمين لا يتركون مناصبهم، وعائلاتهم (وأحيانا قبائلهم وطوائفهم) نظّمت وراثة الحكم فيها، أو صار أبناء الرؤساء هم كبار المسؤولين في السياسة، والاقتصاد، والرياضة. وبدت بعض الملكيات أقل تشددا ودموية وفئوية من أولئك “الثوّار”. وفي مصر، لم يبق من الاشتراكية الناصرية إلا طيف متلاش. وفي كل هذه الدول، سواء بسبب سوء الإدارة أو الفساد، أو الحروب والصراعات، صار المواطن في وضع بالغ السوء اقتصاديا وحياتيا، وقمعت حرياته، وصار الحزب مدخلا للفساد والحصول على وظيفة وجاه اجتماعي.
عالميا، كان انهيار السوفيات، وانهيار النظم الاشتراكية، إيذاناً بتقدم النموذج الرأسمالي (المتسربل بالليبرالية الكلاسيكية). وهذا النموذج، سواء من حيث الأفكار أو من حيث التطبيقات الاقتصادية، قام على القطاع الخاص وبيع ممتلكات الحكومات وتقليص دورها، ما قلل بدوره من أهمية الأيديولوجيا والشعارات والعمل الاجتماعي المنظم، وركّز الاهتمام على الفرد ومبادراته الخاصة.
أعطى انهيار السوفيات، وتحول الثوار الجمهوريين إلى حكم مستبد تقليدي عائلي، فاشل اقتصاديا وبيروقراطيا، المقولات ما بعد الحداثية مصداقية. وهذه المقولات التي تبناها مفكرون وفنانون وسياسيون، تقوم على أنّ الحديث عن وجود قوانين ونظريات وأيديولوجيات تحدد مسار العالم، والأوطان، والإنسان، مجرد وهم، وأن كل شيء مشوش، ومرتبك، ومثير للشك، وتحتاج كل حالة لتفكير خاص من دون قوانين أو فلسفات ونظريات شمولية. (شعر الناس ومارسوا ما بعد الحداثة وإن لم يفهم كثير منهم معناها).
كانت هناك بقية من قوة القوى الدينية السياسية الإسلامية. وبدا أن كثيرا من المناضلين السابقين وأمثالهم من الجيل الجديد، يدخلون عصر المنظمات غير الحكومية (NGOs) الممولة أجنبيا، سواء لأنهم ملوا أحزابهم ويبحثون بصدق عن بديل آخر، أو لأسباب مالية بحتة.
تعرض الإسلاميون لضربات؛ أولها ذاتي. فمثلا، فشل النظام الإيراني في تحقيق نموذج اقتصادي أو سياسي ناجح، وجاءت انتخابات 2009، مثيرة للشك حول نزاهتها، ثم بشأن القمع الذي تلاها، ما جعل كثيرا من العرب والمثقفين المتحمسين لطهران يخفضون صوتهم. وبرزت نماذج “القاعدة” و”داعش” المنفرة. وتخبط الإسلاميون في براغماتيتهم، فأيد إسلاميو العراق الغزو الأميركي، ورفضه الآخرون، وحاولوا التهدئة مع الأنظمة الحاكمة، ولم يطرحوا تصورا متطورا للسياسة والتغيير، قبل أن “تنقض” الأنظمة الحاكمة والقوى العسكرية والأمنية السياسية في الدول العربية عليهم. أما المنظمات غير الحكومية، فقد تطور رأي عام ضدها، وتراجعت إدارة جورج بوش الابن عن دعمها، لأسباب عديدة، منها قرار الولايات المتحدة الحد من سياستها التدخلية الخارجية والانكفاء لأزمتها الداخلية.
أخيرا، جاءت الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي لتكمل الأمر. فقد أكد “فيسبوك” والهاتف الخلوي (الموبايل)، أن الأفراد لا يحتاجون لجهات مركزية توصل لهم الأفكار والشعارات، فلا يحتاجون خطاب الزعيم، ولا منشور الحزب ومجلته. ويمكن لهم أن ينشروا هم ما يريدون، ويقوموا بأي فوضى يرغبون فيها. فلا يحتاجون قادة أو توجيها مركزيا، خصوصاً أن ما أصاب النخب السياسية أصاب النخب الفكرية؛ من تكلس كثير منها وعدم تجدده، وانجرار الشبان منهم للأبحاث السياساتية الممولة من جهات حكومية وخارجية، بعيدا عن العمق الفكري والثوري التنظيري. ولكن بعد الثورات التي اعتمدت هذه الوسائل، وفشلها، عاد التفكير لنقطة الصفر: فقدت الأحزاب والتنظيمات جاذبيتها، ولكن لا يبدو ممكنا الاستغناء عنها أو عن بديل لها، يكون قيادة حقيقية وقاطرة للتغيير.
الغد الاردنية
الحزب العربي والموبايل….بقلم:احمد جميل عزم

Leave a comment