رغم أن خلافات الأحزاب الحاكمة في إسرائيل حول سن قانون «الخدمة المدنية الإجبارية» لم تكن ذات علاقة بالأقلية العربية الفلسطينية في الداخل، إلا أن «مخطط الخدمة المدنية» عاد ليشغل الحركة الوطنية في الداخل بإلحاح، ذلك بعد أن أثبتت الحكومة الإسرائيلية الحالية إصرارها، أكثر من أي وقت مضى، على تطبيق المخطط الصهيوني بامتياز. مع هذا، فإن الإجماع الوطني غير المسبوق على رفض المخطط وضرورة مكافحته لم يُعنْ الحركة الوطنية، باختلاف تياراتها، على بلورة إستراتيجية عمل واضحة لمكافحته، ولا لمواجهة سلطة الاحتلال في حال تحوّل المخطط، الطوعي حتى الآن، إلى قانون يجبر الشباب العرب على الانخراط به.
«الخدمة المدنيّة» مخطط يستقطب الشباب للـ«تطوّع» ليكوِّن قاعدة واسعة من الخادمين، ثم يفرض قانون الخدمة الإجباريّة، وهو عنوان جديد نسبياً لفكرة قديمة لم تختلف الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على التمسّك بها. تشابهت الحكومات بسعيها لتشويه الهوية العربية الفلسطينية للأقلية وتفكيك بناها الاجتماعية والثقافية عن طريق دمجها بالمؤسسة الصهيونية – الأمنيّة خاصةً – إذ تمارس إسرائيل جوهرها الاستعماري بتغييب الهوية الفلسطينية بعد أن فشلت بتهجير كل الفلسطينيين.
يشكّل المخطط، الذي طرحت فكرته منذ خمسينيات القرن الماضي، بديلاً للشباب الفلسطينيين عن الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي (الأمر الذي لا يختلف في رفضه فلسطينيان)، وقد أعفي فلسطينيو الداخل منها في العام 1949، ثم عادت إسرائيل وفرضت في العام 1956 الخدمة العسكرية على أبناء المذهب الدرزي، في محاولة لسلخ الطائفة الدرزيّة عن شعبها.
ولد المخطط من رحم الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، وهو يستقطب كل شاب وفتاة عربيين أنهيا مرحلة الثانوية العامة للتطوع في خدمة واحدة من مؤسسات الدولة. وُضعت صياغات كثيرة للمخطط، واستندت على أبحاث أجرتها أذرع الأجهزة الأمنية. في العام 1999، مثلاً، تكلّف مجلس الأمن القومي بإجراء أبحاث حول هذا الشأن، كما شكّلت الحكومة الإسرائيلية لجاناً متعددة لصياغة المخطط وفرضه، كانت أهمها «لجنة عبري» التي عملت من العام 2003 حتى 2005، وترأسها مدير عام وزارة الدفاع في حينه دافيد عبري، وهو قائد سلاح الجو سابقاً، حيث أوصت اللجنة «بتجاهل رفض قيادات المجتمع العربي في إسرائيل، إلى جانب اليهود المتدينين، والقبول بمسار حكومي رسمي لدمج الشبيبة العربية فيه».
لم يكن التركيز على فرض المخطط وقوننته في العقدين الأخيرين مجرد صدفة، فقد شكلت تلك الفترة محطة فارقة في تنظيم الحركة الوطنية ومؤسسات المجتمع المدني وحركات الشبيبة الوطنية، وقد طرحت ثمارها في انخراط فلسطينيي الداخل بالانتفاضة الثانية عند انطلاقتها واستشهاد ثلاثة عشر شاباً في الأحداث التي يُطلق عليها اسم «هبّة أكتوبر». وهذه كانت ضوءاً أحمر لسلطة الاحتلال لتسارع في تطوير أساليبها من أجل كسر الانتماء الوطني بين الشباب الفلسطيني.
يشير تبدّل الخطاب الإسرائيلي، الذي يغلّف الجوهر العنصري للمخطط، إلى مدى نجاح حملات التوعية التي خاضتها القوى السياسية لمناهضته، فمشروع «الخدمة الوطنية الإسرائيلية» بدّل اسمه بقرارٍ حكومي في العام 2007 ليصبح «خدمةً مدنية» وذلك في محاولة للالتفاف عن الخوض المباشر في القضية الوطنية، كما خمدت التصريحات العنصرية التي ظهرت بعد الحرب على لبنان في العام 2006، والتي تطالب العرب بالخدمة باعتبارها «صك ولاء للدولة»، ذلك بعد أن كثفت الحركات الوطنية في الداخل نضالها ضد المخطط، ودأب الفلسطينيون على فضح جوهره الأمني وأهدافه الحقيقية: اعتبره البعض «أشتراطًا للحقوق بالواجبات» رغم أن حقوق الفلسطينيين مكفولة بكونهم أبناء البلاد الأصليين الواقعين تحت الاحتلال، واعتبره آخرون انتقاماً من العرب بضربهم اقتصادياً وتعويقهم عن الدراسة الأكاديمية، ورأى جزء آخر أن المخطط خطر على الهوية والانتماء، ومقدمةً للانخراط في الخدمة العسكرية، كما راح بعض الساسة إلى اعتبار المخطط «إعلان حرب» على الأقليّة.
المعوّقان الأساسيّان اللذان يحدّان من نجاح مكافحة المخطط ويؤخّران الحركات الوطنيّة عن اتخاذ خطوات عمليّة ضده يتعلقان بالحجم الهائل للموارد المادية، السياسية والاجتماعية التي تكرسها سلطات الاحتلال لدعم المخطط من جهة، والإشكاليات المتأصلة في التنظيم السياسي للأقلية وقيادتها.
التطوّرات الاجتماعية والسياسية في المجتمع الصهيوني، الذي يعيش الشاب العربي على هامشه، تجعل الشباب أكثر قابلية للوقوع في شرك الخدمة المدنية: هناك الميزانيات الهائلة – ما يعادل 9 ملايين دولار أميركي في العام 2010، ثم 22 مليوناً في العام 2011 تخصصها الحكومة لـ«مديرية الخدمة الوطنية». وهناك التشريعات الإسرائيلية التي تضيّق الخناق على الشباب العرب بـ«تحديد سن الدخول» إلى بعض التخصصات الأكاديمية إلى ما بعد سن 21، وهو السن الذي يُنهي فيه اليهود خدمتهم العسكرية. وهناك في هذه التشريعات ما يسمح بتفضيل الجنود المسرّحين على العرب في مساكن الطلبة، والمنح التعليمية، وبرامج دعم الطلاب، وحتى القروض. هذا إضافةً إلى الانفلات العنصري المستمر في المجتمع الإسرائيلي الذي وصل الأمر به الى أن أرباب العمل اليهود يرفضون تشغيل عمال لم يؤدّوا الخدمة العسكرية في المطاعم والمتاجر وغيرها.
مع هذا، لا يمكن أن تتنصل الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني من مسؤوليتها بتحديد الخطوات العملية ووضع إستراتيجية نضالية موحّدة للتصدي الفعلي للمخطط. حتى الآن، انحصر عمل الحركات الوطنية على التوعية لا غير، ومناجاة النفس التي لا تصل إلا للشرائح الاجتماعية المنخرطة أصلاً في الحياة السياسية. وبقيت الخلافات بين التيارات السياسية، والعقبات العضويّة في البناء التنظيمي للأحزاب والهيئات القيادية والتمثيلية التي تضمها، إضافة إلى تخصصات الجمعيات الأهلية ونخبويّتها. كذلك بقي الفشل الممتد منذ سنوات في بناء مؤسسات إدارية وتنفيذية فلسطينية تحتوي الضيق الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه الشباب العرب في مواجهة خطر مخططات الأسرلة المتواصلة.
مجد كيال – السفير اللبنانية