تتدهور الأوضاع أكثر فأكثر في سوريا، ويعاني المواطنون الأمرّين في جميع شؤونهم وفي المناطق كافّة. كما ينسدّ الأفق السياسي ويتضاءل الأمل بطرح رؤية للخروج من هاوية يبدو أنّ البلاد قد رزحت في قاعها بعد أن غيّر التفجّر العراقي الأخير قواعد الصراع في سوريا بشكلٍ جذريّ. وضاق المواطنون ذرعاً وباتوا يترقّبون أيّ بصيص أمل.
في هذه الظروف التي تعلو فيها كلمة السلاح والتفجيرات، تتكاثر الطروحات حول أولويّة عقد مؤتمر وطنيّ عام يضع أسساً لحلّ سياسيّ. جوهر هذه الفكرة أنّ السوريين هم من يقرّر مستقبلهم، وأنّهم كفيلون من خلال تجربتهم التاريخيّة بإيجاد حلول للاستعصاء الحالي مهما كان التباين الشديد في مواقفهم.
ولكنّ هل يُمكن حقيقة عقد مؤتمر وطنيّ عامّ في الظروف الحالية؟
في السنة الأولى للصراع، تمّت الدعوة لعقد مؤتمر «حوار وطنيّ» في حزيران 2011 لم يفض في النهاية إلى شيء بالرغم من إيجابيّات وثيقته النهائيّة. كانت مشكلة ذلك «الحوار» أنّه كان بين مثقفين معارضين وممثلين عن الدولة فقط. لم يجلس أحدٌ من أركان السلطة الذين أطلقوا «الحلّ الأمنيّ» على طاولة الحوار، مع أنّهم هم بالضبط الطرف الرئيس في الأزمة. هكذا انتهى الحوار إلى استعراض إعلامي ووثيقة غدت حبراً على ورق. تدهورت الأمور في السنة الثانية، فجاءت الدعوة الأمميّة التي أنتجت وثيقة «جنيف 1»، التي تضمّنت خلفيّتها تفاوضاً بين السلطة وممثلي المعارضة السياسية على تقاسم الحكم. كذلك تضمّنت الخلفيّة ضرورة أن تتوحّد المعارضة على أسس واحدة وفي جسم يمثّل أطيافها كافة. وفعلاً عقدت مؤتمراً لها وأنتجت وثائق يُمكن أن تكون أساساً للتفاوض. إلاّ أنّها منعت دولياً من أن تتوحّد، بل الأنكى أنّ الصراع انتقل من صراع سياسيّ مع بعض العنف إلى حرب مفتوحة، وأصبحت الريادة بيد التنظيمات المقاتلة على طرفي الصراع. هكذا لم يأت تفاوض «جنيف 2» في السنة الثالثة للحرب بشيء، إذ إن خلفيّته باتت بعيدة عن واقع الحرب القائمة وتشرذم البلاد وتكاثر القوى المقاتلة.
لا يمكن توقّع أن تتوحدّ المعارضة السياسيّة في أمدٍ قريب، ولا أن يتمّ توحيد العسكريّ والسياسي ضمنها. كما تشرذمت القوى الموالية للسلطة، وضعفت مؤسسات الدولة كثيراً. فمن يمثّل السوريين إذاً في مؤتمر وطنيّ عام أو في تفاوض؟ وهل يُمكن للمواطنين حقّاً أن يختاروا حالياً من يمثّلهم؟
الأولويّة اليوم إذاً هي لوقـف الحـرب كمـقدّمة لخلق ظروف تؤسّس لاحـقاً لعقـد مؤتـمرٍ وطنيّ. وقـف الحـرب لتوحيـد الجـهود، ولو ضمنيّاً، لمواجـهة طرف ثالث، هو التهديد الوجـوديّ الذي باتـت تشكّلـه «داعـش» مع مـا حظـيت به من الأموال والسلاح الأميركي في العـراق. إنّ القوى الموالية للسلطة القائمة وتلك الـتي تعارضهـا ليـست قادرة أن تحارب على جبهتين سويّة. ولم يعد ممكناً «تحالف» أيّ منهما مع «داعش» لتقويض الأخرى.
أضحى هناك «شيطان أكبر»، تتّفق كلّ القوى الدوليّة والإقليميّة، وعلى رأسها السعودية وإيران، على أنّه الخطر الجوهريّ الذي يتخطّى بكثير خطر حركتي «طالبان» و«القاعدة» في أفغانستان. وبروز هذا الشيطان الأكبر بقوّة يجعل ممكناً أن تخفّف الأطراف المتقاتلة التي ما زالت تتمسّك بسوريّتها، ولو بالحدّ الأدنى، من شيطنة بعضها البعض الآخر.
المبادرة لوقف الحرب تقع على عاتق السلطة القائمة، التي عليها الاعتراف أنّ المقاتلين الذين يواجهونها ليسوا جميعاً إرهابيين، وأنّها ليست حليفة «داعش»، بل تدافع عن سيادة البلاد وتكافح إرهابه كما ادّعت في مفاوضات «جنيف 2». ومن يجب أن تعترف بهم وتتفاوض معهم على وقف إطلاق النار هم بالضبط مقاتلو المعارضة، كما فعلت في ما تسمّيه «المصالحات»، انطلاقاً من برزة ووصولاً إلى حمص. ولكن اليوم على مستوى أشمل، بحجم شموليّة خطر «الشيطان الأكبر».
السفير اللبنانية