دفعت حركة «داعش» الأمور في المنطقة إلى الذروة ميدانياً وسياسياً. أنتجت وقائع على الأرض خارج السياق الذي وصلت إليه الأمور في العراق وسوريا. فرضت عنواناً للبحث يتعلق بمستقبل كيانات المنطقة وفتحت الباب على تحريك حدود أخرى، كما وضعت سقفاً للإسلام السياسي عالياً وصادماً ومقلقاً لكل دول المنطقة والحركات الإسلامية بإعلانها قيام «دولة الخلافة». هذا الشعار الذي أطل برأسه مع بدء الثورات العربية في تونس ومصر وتركيا بالحديث عن «الخلافة السادسة» والذي سرعان ما سُحب من التداول.
«دولة الخلافة» هي الآن تحدٍ عسكري مادي ميداني اقتطع لنفسه جغرافية واسعة الأطراف متماهية مع البيئة الإسلامية السنية المناهضة لنظامَي العراق وسوريا. ينتشر عناصر «داعش» أو يتواجد أتباع هذا «التنظيم» في وسط ديمغرافي شعبي يزيد من صعوبات مكافحته.
واقعيا، تمكن محاصرته ومقاومته كما حصل مع تنظيم القاعدة في العراق من قبل العشائر وحركة «الصحوات». لكن الأمر يتوقف الآن على الحل السياسي أو المشروع السياسي المطروح لحل الأزمة في العراق وسوريا المتشعبة بأبعادها الإقليمية والدولية. أما رفع السقف السياسي بإعلان قيام دولة الإسلام الدينية تحت مسمى «الخلافة» فهو، على خطورة معانيه وأبعاده وتداعياته، يطرح مأزق الإسلام السياسي في المنطقة.
فإذا كانت المجتمعات التي تدين بالإسلام وتتخذ لدساتيرها وهوياتها صفة إسلامية أو مرجعية فقهية أو تشريعية أو نظامية، فإن «داعش» ألقى بوجهها جميعاً كرة النار هذه أو «الثقّالة» بزعمه إمكان قيام «دولة الخلافة». فإذا كانت المنطقة قد عرفت نموذج الدولة التي تجعل دستورها «القرآن» كالمملكة العربية السعودية ومليكها حارساً على تطبيق الشريعة، أو كما هو حال المملكة المغربية مع صيغة «أمير المؤمنين» أو السودان حديثاً مع دستور وضعي يحتوي كل الأحكام الشرعية، فإن «داعش» طرحت في وجه هذه النماذج تحديات أكبر بجعل السلطة والمرجعية للخليفة أي للقائد الديني غير المدني.
وبقطع النظر عن الممارسة السياسية لـ«داعش» وعن طريقة تطبيقها لأحكام الشريعة والفظاعات التي ارتكبتها، المناقضة للإسلام بحسب مراجعه الفقهية القديمة والحديثة، والمناقضة لثقافة المسلمين الحالية، ولنماذج أخرى من حكومات الإسلام السياسي، الإيراني والتركي وحتى الإخواني في لحظته العابرة المصرية، فهي تضع على جدول البحث السياسي (الميداني الآن) والفقهي، كل منظومة الإسلام السياسي أمام محاكمة خطيرة. لسنا معنيين بالمجادلة الفقهية المتروكة لأصحابها وقد سمعنا ردود الفعل الشاجبة والمبطلة لهذه الخطوة، بل نحن معنيون بتأكيد فشل الإسلام السياسي في حل مشكلات الشعوب والمنطقة وفي المقدمة تقديم نموذج وحدوي مستقر ومسالم يؤطر عملية تنمية بشرية أساسها الحرية والكرامة وحقوق الإنسان. فالعمامة والعباءة أو الطربوش الإيديولوجي «الإسلامي» لم يقدم في الماضي والحاضر نموذجاً خاصاً للمشاركة في حضارة العالم المعاصر، وهو الآن يشكل ظاهرة الحروب الأهلية والدينية والإقليمية ويضع المجتمعات الإسلامية أو المفطورة على الثقافة الإسلامية في حال من النزاعات المتوحشة. وفي كل هذه «المنافسات» بين الحركات الإسلامية لا نجد إلا ملامح ومضامين الصراع على السلطة والاستهانة لأجل ذلك بكل القيم المدنية والإنسانية والمكتسبات التي حققتها شعوب هذه المنطقة والطموحات التي تتطلع إليها. فلسنا هنا من القائلين بأهمية الكيانات السياسية القائمة إلا من باب الحرص على هذه المكتسبات في وجه «الفوضى الوجودية» وليس «الفوضى الكيانية» أو الحدودية.
ولا بد أن نلفت هنا إلى أن تصعيد حركات الإسلام السياسي «العنفي والتكفيري» من أحد وجوهه مبارزة بين «النماذج» أو المفترضات النزاعية القديمة بين «الخلافة والإمامة» المتجددة على أرض الصراع الطائفي السني الشيعي والعربي الفارسي والتركي الفارسي (السلجوقي الصفوي) أو الوهابي العثماني ذي الاتجاه الصوفي السلفي.
وإذا كانت «الإمامة» ممكنة، «فالخلافة» ممكنة نظرياً وعملياً ولو من باب المقابلة التي دونها الكثير من الفوارق التاريخية والمعطيات الاجتماعية الراهنة.
المهم أن «داعش» ظهّرت الصورة القصوى لعالم تحكمه حركات تستمد شرعيتها من «المرجع الديني» وحكمت سلفاً على أنها آلية لحروب أهلية تسلس قيادها في نهاية المطاف لقوى كبرى خارجية تستخدمها في إعادة صوغ مصالحها في المنطقة دون اعتبار لكون ذلك يغرقها في الظلامية والتخلف.
السفير اللبنانية