مثل حبات الرمل الناعمة، يتسرب الواقع من بين اصابع من يحاول القبض عليه بيد الإيديولوجيا والمنهج الجاهزين. الأسئلة التي تطرحها ظواهر آخذة في الاتساع والتجذر في العالم العربي، تتحدى انساق المفاهيم والرؤى التي نجحت في أزمنة وأمكنة أخرى في الإحاطة بالواقع.
ليس ذلك لأن «النظرية رمادية وشجرة الحياة خضراء» كما كان يقول غوته، بل لأن شجرة الحياة هذه باتت تتلون بألف لون ولون بما يحول دون فلاح النظرية، مهما زعمت لنفسها من العلم والكمال، في معرفة «الحقيقة» وتفسيرها وعقلنتها.
اقتراب عدد من الدول العربية من تلك التي شهدت الثورات في الأعوام الأربعة الماضية ومن غيرها، من حالة «الدولة الفاشلة»، يشير الى نهاية محاولات بناء «الدولة الوطنية» على طراز الدول الغربية في القرن التاسع عشر. ولا يفيد رصف الأزمات التي مرت المنطقة بها في العقود القليلة الماضية، قرب بعضها، من الانفجار السكاني الى الجفاف ومركزة رأس المال بيد حفنة محدودة العدد، وصولاً الى تغوّل الأنظمة الاستبدادية الطائفية، سوى في اظهار جوانب وأجزاء من الدوافع التي أفضت الى الثورات العربية.
ومن دون الإطناب في رسم صورة سال في وصف ملامحها حبر كثير، يتعين القول ان ما يجري يطرح على المحك اسئلة عن مصائر الحداثة والمجتمع والدولة في بلادنا ومعانيها.
والحال ان الكلام عن تجاوز الحداثة وبداية عصر ما بعدها ليس جديداً. فقد بشّر به كتّاب غربيون كثر، ربطوا كذلك بين التخلي عن الحداثة كمنظومة قيمية وثقافية وبين الأثر الذي يتركه ذلك في المجتمع الذي بات ينبغي النظر اليه في ضوء مختلف ما دام ان المجتمع ذاته من «منجزات» الحداثة. وتجاوز هذه يقود حكماً الى تجاوز مفهوم المجتمع وإعادة طرح السؤال عن الأسباب التي تجمع سكان رقعة جغرافية ببعضهم بعضاً. وإلى جانب المجتمع موضوع التساؤل، لا بد من التدقيق في آثار العولمة في الاقتصادات المحلية في منطقتنا وفي العالم. هذه العولمة غيّرت تغييراً جذرياً آلية توزيع الثروات ثم مواقع الطبقات الاجتماعية من الإنتاج، وقلصت الى حد بعيد «التناقض الرئيسي» بين العمل ورأس المال بنقلها المصانع الى خارج الحدود ومن ثم انتزاع التوتر بين قطبي التنــــاقض الكلاســــيكي، وما رافق ذلك من تقويض للبنية الاجـــتماعية الــسابقة وافتقـــار المقولات السابقة عن «طليعية» الطبقة العاملة الصناعية في التغيير السياسي بالاستناد الى تنظيمها الفطري ووعيها، افتقارها الى الأدوات اللازمة… حيث انكمش حجم هذه الطبـــقة في المجتمعات الصناعية الغربية وانحازت اجزاء واسعة مما تبقى منها الى صفوف اليمين المتطرف الشعبوي الذي خاطب خوفها من خسارتها وظائفها لمصلحة الأجنـــبي الوافد، بأفضل ما فعل اليســـار الذي انتـــــقلت اهتـــماماته من دفع العمل النقابي المطلبي الى الدفاع عن التعدد والتنوع وحقوق الأقليات. تغيّر آليات الإنتاج لحقه تغيّر في مواقع الفئات الاجتماعية ونظرتها الى الروابط التي كانت تجمع السكان ومنها الدولة وعموماً «المجتمع».
باختصار، يمكن القول ان هذه العملية التي امتدت على عقود، بدّلت طبيعة المجتمعات الصناعية وبنيتها وثقافتها. في البلاد العربية كان يحدث شيء مشابه في الوقت ذاته.
النسخ التي أقامها العرب للدولة الحديثة، وعلى رغم تشوهها، نجحت في احتواء الصراعات الأهلية السابقة التي برزت لمحات منها في الفترة الفاصلة بين انسحاب القوات العثمانية ودخول الفرنسيين الى دمشق، على سبيل المثال لا الحصر. التدقيق في تلك الأشهر الصعبة يوحي بأن مجتمع المشرق لم يكن يدري الى اي وجهة يسير. الصراعات المدينية- الريفية، مطالب الطوائف ومخاوفها، تفكك النخب وهزالها، من الأسباب المهمة التي جعلت استمرار المملكة العربية في حكم المحال، وأضعفت القدرة على مواجهة الفرنسيين في ميسلون السورية، والإنكليز في ثورة العشرين العراقية، مع الانتباه الى الفوارق في حيثيات الحدثين.
اليوم، يجوز لنا الزعم بأن الأزمات التي شهدتها فترة الحكم العربي بعد انهيار السلطنة العثمانية، تتكرر بمقاييس أكبر بكثير. انهيار الدولة في سورية والعراق كشف عمق الإخفاق ليس فقط في بناء المؤسسات والأجهزة الرسمية والبقاء في مرحلة شديدة البدائية في مجال تطبيق أسس الإدارة وسيادة القانون والاستخدام الأداتي الاعتباطي لكل المؤسسات من قبل الجماعة المتغلبة، الممسكة بخناق «المجتمع» امساكاً لا فكاك فيه، بل قبل ذلك في العجز عن اقامة مجتمع يحمل مؤسسات الدولة المزعومة التي تضمه، بدورها، في نطاقها.
نهاية الدولة والمجتمع في المشرق العربي والعودة الى سياسات الهوية والطائفة والقبيلة في سورية والعراق، لم تكونا غير اعلان صريح عن العجز عن مد الهوية الفرعية الطائفية على مجموع السكان المتعددين وعلى مساحة البلاد التي اعتبرت دولاً.
وكما تغيرت مواقع الفئات الاجتماعية في آليات الإنتاج في الدول الصناعية، تغيرت في المشرق مواقع الجماعات من السلطة وباتت كل منها تشعر باكتمال قدراتها على إقامة كيانها السياسي النقي والمستقل، في معزل عن تحمل جحيم الآخر المختلف طائفياً وثقافياً.
بكلمات ثانية، المثال العربي للنموذج الغربي للدولة الحديثة، او «البرادايم» العربي اذا جاز التعبير، المستوحى من الدولة الأمة في اوروبا في القرن التاسع عشر، انتهى في المشرق، خصوصاً في «المجتمعين» اللذين كانا يعتبران الأكثر تقدماً فيه، وبرزت هشاشة «الدولة» غير القادرة على الحفاظ على نفسها خارج منظومة التحالفات الطائفية والجهوية المعززة بالقتل والعنف، كما يفعل بشار الأسد ونوري المالكي و»نظيرهما» ابو بكر البغدادي، المعبّر الصريح عن «الدولة» في أكثر اشكالها بدائية واعتماداً على القسر والتهديد.
وإذا كان من فائدة في هذه الخلافة الداعشية، فهي اظهارها حقيقة الدول في هذه المنطقة كأدوات للاستبداد الفردي والجماعي والاستحواذ الضاري على الثروة والمكانة.
الحياة اللندنية