أصبح الخوف من تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام” (“داعش” التي أصبحت تشير إلى نفسها الآن باسم “الدولة الإسلامية”) عامل التوحيد الجديد لدول الشرق الأوسط وما وراءه، والتي تكره بعضها بعضا في العادة. ويشكل الظهور المفاجئ لدولة خلافة داعش التي ما تزال في طور التوسع، بمزيجها المرعب من الوحشية والتعصب والفعالية العسكرية، عدواً مشتركاً لكل من الولايات المتحدة، وإيران، ودول الاتحاد الأوروبي، والعربية السعودية، وتركيا، وفي العراق: كل من الشيعة والأكراد والسنة المعادين لداعش.
كان استيلاء “داعش” على الموصل يوم 10 حزيران (يونيو) هو الحدث الذي وضع نهاية لفترة حكم نوري المالكي التي امتدت لثماني سنوات، والذي سحب ترشحه لفترة ثالثة كرئيس الوزراء يوم الخميس الماضي. وكانت مجموعة متنوعة من الساسة والأحزاب العراقية، التي تحظى بدعم متقطع من القوى الأجنبية، تحاول التخلص منه على مدى سنوات، لكنهم أخفقوا في ذلك بسبب عدم توحدهم وبسبب إحكام المالكي سيطرته على الدولة العراقية. وكان تجوال مسلحي “داعش” في عرباتهم “الهمفي” التي استولوا عليها في الشوارع الواقعة على مسافة ساعة بالسيارة من العاصمة بغداد، هو العامل الذي خلق العزم أخيراً على التخلص من السيد المالكي.
مهما كانت الخلافات عميقة بين واشنطن وطهران، فقد أصيبتا كلتاهما بالرعب من احتمال تقدم “داعش” إلى مدينتي بغداد وأربيل. وكانت السعودية تعارض إيران والإسلام الشيعي، سراً وعلانية، منذ إسقاط شاه إيران في العام 1979، لكنها أصبحت تتعرض لتهديد حقيقي من “داعش” الآن، والتي لا تختلف نسختها من الدين كثيراً عن الوهابية السعودية في نهاية المطاف، لكنها تتحدى مشروعية حكم آل سعود مع ذلك. ويوم الجمعة الماضي في مكة، دعا إمام وواعظ الجامع الكبير البارز، الشيخ عبد الرحمن السديس، إلى وضع مدونة سلوك من أجل وقف القادة والشباب عن دعم العنف و”الإرهاب”. ولعل أحد مضامين ذلك أن العربية السعودية سوف تعمد إلى قمع الدعاية المؤيدة للجهادية على الإنترنت ومحطات الأقمار الصناعة، والتي كانت المملكة تشجعها في السابق.
الإيرانيون بدورهم يواجهون مستقبلاً أكثر تهديداً فيما يحكم مقاتلو “داعش” قبضتهم على محافظة ديالى العراقية الواقعة على الحدود الإيرانية. وقبل سنة من الآن تقريباً، كان عضو بارز في قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني قد أوضح كم من الضروري أن يحارب الأمن الإيراني في دمشق، مع أنها تقع على بعد 870 ميلاً من طهران؛ لكن “داعش” التي تنظر الشيعة على أنهم زنادقة جديرون بالموت، تمكنت قبل أسبوع تقريباً من الاستيلاء على بلدة جلولاء الواقعة على بعد 25 ميلاً فقط من إيران. فلا عجب إذن في أن تريد إيران أن تقول وداعاً للسيد المالكي الذي كانت قد دافعت عنه طويلاً، من أجل إنهاء الأزمة السياسية في بغداد.
لم يأت الاعتراف بالخطر الذي شكلته “داعش” مباشرة مع سقوط مدينتي الموصل وتكريت. ففي بغداد، وفي الخارج، كان ثمة تفكير آمل بأن تكون “داعش” مجرد قوات الصدمة المتعصبة للمجتمع السني الثائر في العراق؛ وأنه بمجرد أن يذهب السيد المالكي ويتم تطبيق الإصلاحات المقبولة لدى السنة، فإن الزعماء القبليين التقليديين وقادة الجيش من غير “داعش” سوف يعيدون فرض أنفسهم وسيتخلصون من المتعصبين الخطرين.
لكن تلك الأطروحة كانت دائماً موضع شك؛ حيث ثمة الكثير من الأدلة على العكس. لقد أصبحت “داعش”، بعد تجربتها في العامين 2006-2007 عندما نجح الأميركيون في تقسيم حركة التمرد السنية، أكثر حذراً من تلقي طعنة أخرى من الخلف. ولذلك قامت باتخاذ احتياطات من قبيل المطالبة بالبيعة للخلافة، وقامت وفقاً لرواية من الموصل، بأخذ 300 من أعضاء حزب البعث السابقين وضباط الجيش السابق كرهائن. والدرس المستفاد من العراق وسورية هو أن “داعش” تلجأ في الأماكن التي غزتها إلى تقاسم السلطة فقط عندما تكون مضطرة إلى ذلك. وحتى الآن، ما تزال فرص قيام ثورة مضادة ضدها في المحافظات السنية تبدو قاتمة.
لكن ذلك لا يعني أن “داعش” لم تخلق مجموعة من الأعداء لنفسها، كما أنها تخسر ميزة الفرقة بين خصومها. ففي داخل العراق، كانت العلاقات بين أربيل، العاصمة الكردية، وبين بغداد “مسمومة”، كما قال لي وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري في أوائل تموز (يوليو). لكن هجوم “داعش” المنتصر على مناطق يسيطر عليها الأكراد في آب (أغسطس) جعل الأكراد أقل ثقة باطراد وأكثر رغبة في التعاون مع الحكومة المركزية في بغداد ضد الجهاديين. وفيما بين الكرد أنفسهم، حدث انغلاق في الفجوات عندما تسابق المقاتلون المجربون من حزب العمال الكردستاني لمساعدة القوات العراقية الكردية الذين كانت لهم معها في السابق علاقات عدائية أو باردة جداً.
مع شعور كل من الشيعة والأكراد بالضعف والهشاشة، استعادت الولايات المتحدة الكثير من نفوذها القديم في العراق ببضع ضربات جوية. وفي تناقض مع الجهل والغطرسة الأميركيين في العام 2003، أصبحت واشنطن الآن أكثر دراية وأكثر حذراً إزاء المستنقع العراقي. وبينما تجد دول مثل العربية السعودية وتركيا وإيران مقاتلي “داعش” الشرسين الذين عركهم القتال على حدودها، أصبح من الأكثر ترجيحاً أن تتعاون هذه الدول مع بعضها بعضا ومع الولايات المتحدة. وبكلمات قصيدة الشاعرة هيلاري بيلوك، فإنهم يستمرون في “الاحتفاظ بالممرضة، خوفاً من اختبار ما هو أسوأ”.
هذا التقارب للمتنافسين والأعداء السابقين في معارضة “داعش” يحدث في العراق، ولكنه لا يحدث بعد في سورية، حيث يستمر الأميركيون والأوروبيون والأتراك والسعوديون والقطريون في مواصلة سياساتهم القديمة المفلسة. ويأتي ذلك من أجل التخلص من الرئيس بشار الأسد، أو إضعافه على الأقل، عن طريق دعم معارضة عسكرية معتدلة، والتي يفترض أنها سوف تقاتل كلاً من السيد الأسد و”داعش” معاً. ولسوء الطالع، لا تكاد هذه الجماعة توجد إلا كيافطة دعائي وكمستهلك للمعونات من الخليج. وما تزال “داعش” تهيمن على المعارضة السورية، وقد تعاظمت هذه الهيمنة في الأسبوع الماضي عندما استولت المجموعة على بلدات تركمان باري وأخطرين على بعد 30 ميلاً من حلب.
ربما تصبح الثورة السنية في سورية قريباً مشروعاً تسيطر عليه “داعش” كما فعلت مسبقاً في العراق. وبالنظر إلى أن سورية تتكون من 60 % من العرب السنة، مقارنة بنسبة 20 % في العراق، فإن من الأسهل على “داعش” أن تزيد من قوتها هناك. ويرجح أن تؤول أي محاولة للهجوم المعاكس ضد “داعش” والتي تركز فقط على العراق إلى الفشل، لأن دولة الخلافة تمتد على جانبي حدود البلدين.
تنطوي السياسة الأميركية الراهنة القائمة على ترك الأسد (المدعوم من حزب الله وإيران وسورية) يقاتل “داعش” وحده على مخاطر جسيمة، كما يقول أنتوني كوردسمان، محلل الأمن القومي في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن. ويكتب كوردسمان أن سياسة الولايات المتحدة تعمل فقط بما أن قوات الأسد لا تفقد الأراضي والمدن الرئيسية لصالح “داعش”، وبما أن دولة الخلافة “لا تحرز مكاسب اقتصادية وعسكرية وسياسية ودينية رئيسية”. ويضيف كوردسمان أن الموقف الحالي للولايات المتحدة وحلفائها العرب يفترض وجود مقاومة سنية معتدلة لا تسيطر عليها “داعش”. وفي حال تمكنت “داعش” من المحافظة على “ملاذها” في شرق سورية، فإن دولة الخلافة ستتمكن من تعزيز “قدراتها في العراق وأن تزيد بثبات من حجم تهديدها لكل من لبنان والأردن والعربية السعودية وتركيا، ودول مجاورة أخرى”.
عملياً، لم يتم الوفاء بأي من الشروط التي تشكل سياسة أميركية ناجحة في سورية. وبما أن “داعش” وسعت خلافتها لتغطي كل مناطق شرق سورية تقريباً، فإن لجيرانها كل الأسباب ليشعروا بالخوف. وربما تكون الوحدة والتعاون الوليدين بين خصوم “داعش”، اللتين صنعتهما الأزمة العراقية، صغيرة جداً ومتأخرة كثيراً في نهاية المطاف.
الغد الأردنية