ولدت فجأة 500 وظيفة للمواطنين الأردنيين. فقد حصل هذا، الخميس الماضي، في احتفال متواضع أُجري بعيدا عن العيون في فندق في العقبة. فقد وقع موظفون رسميون من الحكومة الاردنية ونظراؤهم الاسرائيليون على توسيع للاتفاق لتشغيل عمال أردنيين في الفنادق في ايلات. بدلا من 1500، سيتمكن قريبا 2.000 من العمل في المدينة. وسيدخلون في كل صباح إلى إيلات عبر معبر وادي عربا وعند المساء سيعودون إلى بلادهم. لا يتلخص هذا المشروع بـ 2.000 عامل. فقد ولد منظومة تسفيرات لهم في العقبة وخدمات مبيت، وهو يدخل الى صندوق المملكة ملايين الدنانير في السنة.
السلام مع الأردن، الذي يكمل ميلاده الـ 25، مليء بالتناقضات والتضاربات. فمن جهة تعاون استخباري وثيق، بعيد عن العين، ضد كل عدو يمكن تخيله. ومن جهة أخرى، توتر قابل للانفجار وشك متعاظم. في الساعات التي ولدت فيها مئات الوظائف في العقبة، بعيدا عن هناك، هبط في عمان مئير بن شباط، رئيس مجلس الامن القومي. الى جانب قادة جهاز الأمن في الاردن، حاول مبعوث نتنياهو المقرب ايجاد حل لمشكلة باب الرحمة.
وقد عاد الى القدس في اليوم ذاته، دون اتفاق. بعيدا عن هناك، على شاطئ البحر الأحمر، ابتسم الفندقيون برضى. في الجانب الأردني من الحدود واجهت شركات القوى البشرية آلاف الطلبات من الشباب الراغبين في العمل في ايلات.
في منتصف الطريق بين ايلات وعمان تقع بلدة بار صوفر. في موعد ما في السبعينيات استوطن مزارعون في اراض اردنية خصبة قريبة من القرية في سفوح الجبال الحمراء.
مرت السنوات، ووقع اتفاق السلام بين الدولتين. جيب صوفر الى جانب جزيرة السلام في نهرايم عادا الى الأردن. وكبادرة طيبة للمزارعين، وافق الملك حسين على السماح لهم بفلاحة أراضيهم. وتقرر هذا الترتيب لربع قرن فقط، وأفرح هذا المزارعين.
وتعيش صوفر من هذه الاراضي. 1.100 دونم من الارض الطيبة والخصبة، 30 عائلة، وتصدير لمحاصيل بملايين الدولارات الى دول العالم والى السوق الإسرائيلية.
في تشرين الأول الماضي قرر الملك عدم تمديد هذه التسوية، فأوقع على صوفر الأزمة الأكثر حدة في تاريخها.
بعد وقت قصير من الفصح سيتعين على المزارعين ان يهيئوا الأرض للموسم التالي. وتكلف التهيئة الاف الدولارات للدونم الواحد. وبعد نصف سنة عليهم أن يخلوا المنطقة. حاولوا ان تتصوروا هذا بينكم وبين أنفسكم. لا يعرف المزارع اذا كانت الارض التي يخرج اليها اليوم ستكون له غدا أيضا.
فجأة ولد رمز
بعد بضعة ايام من بيان الملك كتبت هنا باستطراد عن الأجواء التي دفعته لينظف صوفر ونهرايم من الاسرائيليين.
ضغوط شديدة من الرأي العام يصعب عليه الوقوف في وجهها. وموقف مستهتر من اسرائيل في الساحة العلنية، دفعه ليعد هذا الخازوق. ومنذئذ انظروا العجب، يوجد في القدس نحوه موقف اكثر احتراما. فقد باتوا في اسرائيل يدعون لوقف ضخ المياه له. ولكن ما العمل، والمياه التي نعطيها هي التزام قانوني في اتفاق السلام، بينما في استعادته لصوفر ونهرايم لا يخرق شيئا. فالبند المتعلق بهما محدد مسبقا بـ 25 سنة. لم يأتِ القرار ذاته فجأة. فقد حذر موظفون اردنيون اسرائيل قبل سنة ونيف مسبقا، بأن هذا ما سيحصل.
اما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت مشروع التحلية. وقع الطرفان قبل أربع سنوات على اتفاق مبدئي لاقامة منشأة تحلية في العقبة. وتقرر نهل 35 مليون متر مكعب كل سنة تضخ الى مزارعي العربا في اسرائيل. اما الباقي فيلقى بها الى البحر الميت. ومقابل هذه المياه تضخ اسرائيل الى الأردنيين الكمية ذاتها في انبوب يسير في شمالي البلاد. وهكذا توفر عليهم اقامة الانبوب من العقبة الى عمان.
بعد وقت قصير من التوقيع، قررت حكومة اسرائيل تجميد المشروع بدعوى أنه ليس اقتصاديا. ولم تجدِ نفعا كل محاولات الأردنيين تغيير الموقف. وبين هذا وذاك وقعت سلسلة من الاحداث التي أخجلت الملك، وعلى رأسها الاستقبال الودود الذي ناله الحارس زيف موئيل لدى رئيس الوزراء نتنياهو. وشعرت عمان بان القدس تستخف بها. وكانت لديها اوراق ناجعة قليلة لرد الضغط. وها قد حان الوقت للحسم في موضوع صوفر ونهرايم.
“الغمر والباقورة (وهما الاسمان العربيان لصوفر ونهرايم) اصبحا رمزا عندنا”، قال لي، هذا الأسبوع، مصدر اردني ضالع جدا في التفاصيل. رمز؟ بحياتك؟ أعرف الخطاب السياسي بين عمان والقدس منذ بدايته في منتصف التسعينيات. لم يسبق أن ذكر القصر هذين الجيبين في سياق وطني. الى أن جاء الشارع ودفعه نحو الحائط.
وفقا لكل المؤشرات من عمان، لا توجد نية لدى الاردنيين للتراجع. فالملك ورجاله قيدوا أنفسهم بتصريحات وطنية عن الجيبين، سيصعب عليهم التراجع عنها. قد يوافق على إبقائهما مقابل بدل ايجار بحيث يبررون الخطوة. وقد يرفضون. اما الآن فليتعرق الاسرائيليون.
العلاقات بين الاردن واسرائيل هي مبنى بلا مصعد. من أجل الصعود الى الطابق الثالث من الواجب المرور من الطابق الثاني. للتسوية في صوفر ونهرايم يوجد احتمال ما، فقط اذا ما وجدت مسألة باب الرحمة حلا لها، وعلى أمل ألا توجد مشكلة جديدة. ووراء الزاوية ينتظر الفصح، الذي في كل سنة تعصف الخواطر به في الحرم.
حافز لمعارضي اسرائيل
إسرائيل، التي تسعى منذ سنين الى ربط الدول العربية بها بكل طريقة ممكنة، والتي تغازل الرياض، القاهرة، وابو ظبي لتلقي بارقة عناق، تتبين هنا بكل ضعفها. هذا لا يعني أنها عرضت تقربا لدولة عربية ورفضت، بل اسوأ من ذلك، كانت في يدها قطعة حلوى واخذت منها بينما كانت تغفو في وضح النهار.
صوفر ونهرايم ليسا بارقة عناق أو بادرة طيبة للكاميرات. فهما تعبيران عن نية طيبة في الموقع الذي أخذت فيه النية الطيبة في الاضمحلال. أهميتهما اكبر من مجموع أجزائهما. وأخذهما من ايدي الاسرائيليين هو ميداليا على صدر رافضي السلام في المملكة.
ومع هذا الحافز سيواصلون الضغط على الملك. وخلف الزاوية تنتظر منذ الآن مسألة الغاز.
وحتى قبل أن يعلن قراره بالنسبة للجيبين، اضطر عبدالله الثاني ليصد الرأي العام المعادي الذي يطالبه بالغاء الاتفاق لشراء الغاز الاسرائيلي. بالنسبة لاسرائيل، فان كميات الغاز هذه تافهة. أهميتها أنها تربط الأردن بها. فاذا ما قام هناك ذات يوم نظام معاد، سيجد صعوبة في ان يعض اليد التي تطعمه.
شخص هو معرفة قديمة، شاب جدي ومطلع جيدا في الشؤون السياسية، كشف لي مؤخرا عن رأيه في الملك. فقد قال من الافضل أن يسقط، وهكذا فقط ستتسرع إقامة الدولة الفلسطينية، في اراضيه، بالطبع. لقد كانت لديه حجج عقلانية في صالح الفكرة. وأعتقد أنه ألمح ايضا إلى ان على اسرائيل أن تساعد عبدالله على انهاء مهام منصبه. أما أنا فقد بدت لي الفكرة خطيرة.
فمن اللحظة التي يخلي فيه نظام كرسيه والى أن تقوم هناك الدولة الفلسطينية، اذا ما قامت على الاطلاق، فسنتلقى “داعش” على حدودنا الأطول. فبدلا من دولة فلسطينية في عمان ستكون هنا انتفاضة في ضفتي الأردن. في هذه التي عندنا وفي تلك أيضا.
غير أن الخيار الأردني يكتسب تأثيرا متزايدا في أوساط سياسية في الجانب اليميني من الخريطة، والتي لم تعد تعتبر هامشية. ويمكن أن نفهم لماذا. فهذا مخرج مثالي لمشكلة المستوطنات. سيقلل دراماتيكيا الضغط الدولي والفلسطيني على الاستيطان في “يهودا” و”السامرة”، وعمليا يمنحه انتصارا نهائيا. صحيح أنه طوباوي، ولكني ما كنت لاتجرأ على أن أتنبأ بأن ليس له احتمال. جمال المستقبل في أنه مفاجئ.
كيف يرتبط هذا بصوفر ونهرايم؟ قرار الملك باستعادة الجيبين استقبل بارتياح ليس فقط في الشارع الاردني، بل إن مؤيدي الخيار الأردني في اسرائيل ابتسموا من تحت شواربهم برضى يعني “ألم نقل لكم”، فهم لا يحبونه ويريدونه ان يرحل. ولكن إذا كانوا، امس، هامشيين، واليوم اقل هامشية بقليل، فغدا سيكون لهم ممثلون في مراكز اتخاذ القرارات.
عن “معاريف”