يمكن القول إنّ حراك عملية اتجاه القيادة الفلسطينية إلى الأمم المتحدة للحصول على عضوية مراقَبة للدولة الفلسطينية، والتفاعلات التي ولّدتها، لا يقلان أهمية عن مسألة العضوية ذاتها. فقد استصدر الحراك مواقف ذات دلالة بالغة من قيادة حركة “حماس”، وسمح بفتح ملفات دول كبرى من قضية فلسطين، مع تحديه لتصفية ملفات تاريخية؛ وأبرز هذه الدول بريطانيا، صاحبة الدور في تشريد الشعب الفلسطيني وعذاباته. كذلك، شكّل الحراك اختبارا حقيقيا للتهديدات الأميركية-الإسرائيلية التي تبيّن أنّها تهديدات بدون مضمون حقيقي، وأثبتت أن التحدي هو سبيل تحصيل الحقوق. لكن هناك أسئلة كبرى تطرح نفسها: أين فلسطين التاريخية؟ أين يافا وحيفا وعسقلان؟
إنّ مواقف “حماس”، وتحديدا مواقف خالد مشعل، الإيجابية إزاء الذهاب إلى الأمم المتحدة، مرتبطة بأكثر من عامل، أهمها أن الانتقال من موقف الانتظار السلبي للمفاوضات إلى موقف المبادرة والهجوم، حتى لو كان هجوما إعلاميا ودبلوماسيا، يؤدي إلى حشد الصفوف وتوحيدها. وبذلك، فإن حرب غزة، ثم الحراك الدبلوماسي في الاتجاه المعاكس للرغبة الأميركية-الإسرائيلية، حرّكا المياه الراكدة فلسطينيا في اتجاه الوحدة والتقارب. وهكذا تتحقق الوحدة بدون اتفاقيات مصالحة.
دوليّا، فإنّ الحراك باتجاه التصويت أجبر دولا في العالم على التفكير في موقفها من القضية الفلسطينية. وبدل أن تكون القضية فلسطينية–إسرائيلية تحت رعاية أميركية، تحولت إلى موضوع دولي.
برزت في السياق دول، أهمها بريطانيا، تقود مساومة حاولت أن تأخذ بموجبها تعهدا فلسطينيا بعدم اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية لمقاضاة إسرائيل، مقابل التصويت لصالح القرار. وشارك بريطانيا في مساومتها دول مثل هولندا والتشيك. وربما ساهمت تعديلات نص القرار المقدم للمنظمة الدولية في عدم معارضة أوروبا، باستثناء التشيك، للقرار. ولكن عدم المعارضة وإن لم تصل مرتبة التأييد الرسمي، كانت انتصارا، ليس لأنه يعني تمرير القرار بدون معارضة دولية تقريبا وحسب، بل لأنه يعني أن عقوبات مالية ودبلوماسية على الفلسطينيين باتت غير متوقعة. وقد جاء قرار الحكومة الإسرائيلية الأخير ببناء 3000 وحدة استيطانية جديدة، صفعة للقوى الدولية، بقدر ما هي موجعة للفلسطينيين. ولكن القرار الاستيطاني أبطل أي تحفظ دولي على الفلسطينيين، وحوّل اتجاه الانتقادات. وبالطبع، لا معنى حقيقيا للتحفظ الدولي أمام الأمر الواقع الذي تفرضه الوحدات الاستيطانية، ولكن إدارة فاعلة للأزمة يمكن أن تؤدي إلى فتح ملف عقوبات دولية على إسرائيل بسبب الاستيطان داخل الدولة الفلسطينية، وتؤدي إلى كسب معركة جديدة، وبدلا من قرارات الإدانة والشجب يمكن السعي إلى إقرار عقوبات دولية، فضلا عن أهمية مواصلة “الهجوم” ضد الدول التي أرادت المساومة، وفي مقدمتها بريطانيا التي بدل أن تكفّر عن خطيئتها التاريخية في المسألة الفلسطينية، استمرت في تأمين الحماية لإسرائيل.
أثبتت حرب غزة وما تلاها من تعزيز مكانة “حماس” دوليا، والاعتراف بها إسرائيليا وعالميا كقوة سياسية، وسلطة أمر واقع في غزة، ثم تراجع وخفوت حدة التهديدات للقيادة الفلسطينية بشأن طلب الاعتراف بالدولة، أن رفع السقف وتحقيق المطالب يتطلب الهجوم؛ سواء عبر المقاومة على الأرض أو دبلوماسيا ودوليا.
بقدر ابتهاج شرائح شعبية فلسطينية بنجاح الخطوة الأممية، بقدر ما يوجد لدى شرائح أخرى، بل ولدى الشرائح ذاتها، تساؤلات ومخاوف، وحتى غضب بشأن مصير فلسطين التاريخية، وقضية اللاجئين. ومن حق فلسطينيي العام 1948 أن يسألوا: أين نحن مما يجري؟ ربما هناك إجابات من نوع أنّ هذه الخطوة لا تخل بحق العودة، ولكن السؤال الحقيقي: أين القيادة الفلسطينية التي تطرح تصورا شاملا للشعب الفلسطيني؟ حتى الفصائل التي لا تُقرّ رسميا بحل الدولتين حلا نهائيا، لا تقدم، ولم تقدم يوما، برنامجا عمليا يشمل كل فلسطين؛ وكل الفلسطينيين لم يحاولوا، مثلا، الحراك سياسيا في كل فلسطين التاريخية. ومثلما أنّ حراك الدولة أدى إلى فتح ملفات عديدة، وتفاعلات لم تكن مقصودة لذاتها، فإن بدء السعي إلى تجديد مؤسسات العمل الفلسطيني، سواءً في إطار حل السلطة الفلسطينية لصالح الدولة أو تجديد منظمة التحرير وقيادتها، سيطرح الكثير من الأفكار، وسيكون لزاما مواجهة الأسئلة المختلفة، بما فيها الأسئلة التاريخية الكبرى.
الغد الاردنية.