في حين ينصب اهتمام العالم على أوكرانيا وعلى التكهن بأي خطوة قادمة سيخطوها فلاديمير بوتن المتسلح بالجرأة، تكاثفت التهديدات المتنوعة الموجهة ضد الديمقراطية على الجبهات الأخرى أيضاً. وليست القصة جديدة. فوفقاً لبيت الحرية “فريدوم هاوس”، كانت 2013 هي السنة الثامنة على التوالي التي شهدت فيها مختلف البلدان تراجعات في حقوق الإنسان أو الحريات المدنية أكثر مما شهدت من التحسينات. ومنذ العام 2005، توقفت الديمقراطية عن توسعها الذي استمر عقوداً طويلة، لتقف عند نسبة فاترة تساوي 60% من كافة الدول المستقلة. ومنذ الانقلاب العسكري في باكستان في العام 1999، تسارع معدل الانهيارات في الديمقراطية، حيث أخفقت واحدة من بين كل خمس ديمقراطيات.
بدا سقوط العديد من الأنظمة العربية الاستبدادية في العام 2011 وأنه يبشر بموجة جديدة من التقدم الديمقراطي، ولكن ذلك التقدم لم يتحقق. وبينما برزت تونس وحدها كأول ديمقراطية في العالم العربي منذ 40 عاماً، أصبحت مصر الآن أكثر قمعاً من أي وقت في العقد الأخير من حكم حسني مبارك. ومنذ نهاية العام 2010، سجلت المزيد من الدول العربية تراجعاً في الحرية والتعددية السياسية أكثر مما حققت من التقدم.
كان الركود الديمقراطي الذي نشهده مرئياً وظاهراً بشكل مخصوص في “الدول المتأرجحة” الكبيرة -الدول غير الغربية التي تضم أكبر عدد من السكان وأضخم الاقتصادات. ومنذ أواخر التسعينيات، انهارت الديمقراطية في روسيا، ونيجيريا، وفنزويلا، والفلبين، وباكستان، وبنغلاديش، وتايلند، وكينيا. وتشكل الفلبين النقطة الوحيدة المضيئة نسبياً في هذه المجموعة اليوم، مع التزام الرئيس المنتخب ديمقراطيا، بنينو أكينو، بإجراء إصلاحات جادة. وفي المقابل، لم تعد روسيا دولة للمرتشين والمستبدين فقط، وإنما أصبحت تشكل خطراً إمبريالياً جديداً على جيرانها أيضاً. وقد عادت نيجيريا إلى مستويات مأساوية من الفساد السياسي المستفحل والاحتيال، مغذية الاستقطاب السياسي والاستياء العرقي، وتغريب المواطنين، مع وجود حركة إسلامية إرهابية تزداد ضراوة باطراد في الشمال. كما ضعفت قبضة “الاشتراكية البوليفارية” في فنزويلا، بينما تدهور الحكم، وتفجرت أعمال العنف، وتوحدت المعارضة خلف منافس ليبرالي لهوغو شافيز أولاً، ثم لخليفته المعين. لكنه سيكون انتصارا باهظ الثمن للديمقراطيين في حال سقوط نظام أنصار شافيز وانهيار النظام الاجتماعي إلى جانبه.
في كانون الثاني (يناير)، تعرضت الديمقراطية في بنغلاديش لنكسة كبيرة أيضاً، عندما قاطعت أحزاب المعارضة الرئيسية الانتخابات البرلمانية، بعد أن أهمل الحزب الحاكم وضع ترتيبات محايدة لإدارة الانتخابات، وانهارت الثقة بين الطرفين. وفي حين يقدر فريدوم هاوس أن الديمقراطية قد عادت إلى باكستان، وكينيا، وتايلند، فإن حكومات هذه الدول تظل غير ليبرالية وفاسدة، حتى إن من الصعب أن نقول ما هي بالضبط.
في تايلاند، أفضت العداوة بين أنصار الملكية من ذوي “القمصان الصفراء”، من الطبقة المتوسطة الحضرية الملكية وبين جماعة “القمصان الحمراء” من أنصار رئيس الوزراء السابق الشعبوي تاكسين شيناواترا، إلى شل الحكومة، وانحرفت المواجهة بشكل متزايد نحو العنف. وقد أصبح عدم الاستقرار واقعاً مزمناً في تايلند منذ أن أطاح الجيش بتاكسين في العام 2006، وجعل البلاد معلقة إلى أجل غير مسمى بين دعم الأغلبية العنيد لحزب تاكسين وبين سيطرة معسكر أصحاب القمصان الصفراء المستمر على المحاور الأساسية لـ”الدولة العميقة”. ومنذ تشرين الثاني (نوفمبر)، قتل هناك أكثر من 20 شخصا وجرح أكثر من 700 في مواجهات الشوارع المحمومة بين المعسكرين. وربما لا يكون الأسوأ قد جاء بعد. ففي كانون الثاني (يناير)، تعهد أحد متشددي جماعة القمصان الحمراء بالقول: “أريد أن يكون هناك الكثير من العنف لوضع حد لهذا كله… لقد حان الوقت لتنظيف البلاد، للتخلص من النخبة، منهم كلهم”. وكما هو الحال في نيجيريا، فإن تجدد التدخل العسكري لن يحل مشاكل البلاد. ومع ذلك، وإذا ما استمرت الأمور في التدهور، فإن الجيش يقف متأهباً على الأطراف.
في مكان آخر، وخلال سنته الثالثة عشرة في السلطة، نجح رئيس الوزراء التركي المتسلط، رجب طيب أردوغان، في تحييد الجيش والصحافة المستقلة سياسياً، إلى جانب العديد من القوى التعويضية الأخرى في السياسة والمجتمع. وقد أصيبت أولئك الذين اعتقدوا بأن انجرافه الشمولي قد يتباطأ بالانتخابات المحلية في أواخر آذار (مارس) بخيبة أمل شديدة، عندما حقق حزبه “العدالة والتنمية” فوزاً مقنعاً عبر البلديات في تركيا. وكان خطاب أردوغان بمناسبة الانتصار في تلك الليلة أي شيء سوى أن ينطوي على السماحة. فقد هدد الذين كشفوا الفساد المتصاعدة لحكومته (ويقال عائلته)، وأكد لأنصاره: “نحن أصحاب هذا البد”، وصور فوزه على أنه شكل “صفعة عثمانية كاملة” لجميع خصومه.
في الوقت الذي يستعد فيه أردوغان للترشح إما لمنصب رئيس الوزراء أو الرئيس (إذا تمكن من تعديل الدستور لتعزيز سلطات الأخير)، فإن تركيا تعاني من ورطة متعمقة. هناك يخشى الصحفيون من عرض الحقيقة، ولسبب وجيه؛ فهناك مسجونون منهم في تركيا أكثر من أي دولة أخرى. وتخشى الشركات والأعمال دعم أحزاب المعارضة، ويخشى القضاة أن يحكموا ضد الحاكم، وحزب العدالة والتنمية الذي طالما أشاد به الغرب لنجاحه في التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، أصبح يبدو بشكل متزايد مثل كيان مهيمن عتيق الطراز عازم على ضمان هيمنته. ومع كل يوم يمر، تصبح تركيا أكثر شبهاً بديمقراطية ماليزيا الزائفة من أي ديمقراطية حقيقية في أوروبا. وفي الوقت نفسه، فشلت ماليزيا في تسجيل الاختراق الديمقراطي الذي توقعه العديدون في العام 2013. وعلى الرغم من أن المعارضة، بقيادة أنور إبراهيم، حصلت على أغلبية واضحة من الأصوات في الانتخابات العامة، فقد عمل الغش الوقح والإفراط في تمثيل معاقل الحزب الحاكم على إجهاض تفضيلات معظم الماليزيين.
لا ينبغي أن نأخذ الهند، أكبر ديمقراطية في العالم، كأمر مفروغ منه أيضاً. ففي الانتخابات البرلمانية التي تدور في جميع أنحاء شبه القارة فيما بين أوائل نيسان (أبريل) ومنتصف أيار (مايو)، يتكشف عرض هائل للخيار الديمقراطي والمساءلة مرة أخرى، وعلى نطاق لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. ويحدث هذا خالياً من العنف إلى حد كبير، وبمهارة إدارية مثيرة للإعجاب. وسوف يفعل ما يجب أن تفعله الديمقراطية: معاقبة الفاسدين وأصحاب المناصب سيئي الأداء بطردهم من السلطة. ولكن الانتصار المحتمل لحزب بهاراتيا جاناتا المعارض سيجلب مفارقة إلى السلطة. فخلال سنيه الاثنتي عشرة كرئيس وزراء لولاية غوجارات، لم يقدم نارندرا مودي تنمية اقتصادية قوية فقط، وإنما عرض معها نمطاً من السياسة غير المتسامحة أبداً مع الانتقادات، وشديدة المطالبة بالطاعة المتملقة، حتى أن العديد من الليبراليين الهنود يرتعدون الآن من احتمال أن يصبح رئيساً للوزراء.
مع ذلك، ليست الأخبار كلها سيئة. سوف تكون 2014 سنة انتخابات حاسمة في العديد من الأماكن. في إندونيسيا، يعلق الكثيرون من الديمقراطيين آمالهم على رئيس بلدية جاكرتا الإصلاحي الديناميكي، جوكو ويدودو، المفضل رغم كل المتناقضات للفوز بالرئاسة. وفي جنوب أفريقيا، يؤدي الفساد المتصاعد والأداء الباهت لحزب المؤتمر الوطني الافريقي وزعيمه الرئيس جاكوب زوما، إلى تحفيز سياسات أكثر تعددية ويجلب الدعم المتزايد للمعارضة الليبرالية الممثلة في التحالف الديمقراطي. وحتى أفغانستان، تبدو أنها في خضم عملية انتخابية شعبية وذات مصداقية معقولة، والتي ستنتج رئيساً أكثر معرفة بالغاية من حامد كرزاي.
على المدى الطويل، سوف تقوم التنمية الاقتصادية، والعولمة، ونمو المجتمع المدني، بحفز التغيير الديمقراطي في عدد من الأنظمة الاستبدادية، بما في ذلك الصين وفيتنام، وقبلهما سنغافورة وماليزيا. لكنه إذا كان من غير الممكن إصلاح الديمقراطية وإحياؤها في الدول المتأرجحة الرئيسية في العالم، فإن “المدى الطويل” سوف يكون أبعد بكثير مما يجب أن يكون، -ولن يكون المدى القريب مضيافاً كما ينبغي لتقدم مسيرة الحرية.
لاري دياموند – (ذا أتلانتيك)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة– الغد الاردنية