كنت أتحدث إلى مجموعة من الأصدقاء عن التحولات السياسية الحادثة في العالم العربي وعدم قدرة هذا العالم – حتى الآن – أن يقف على رجليه في تحقيق الطموحات التي يسعى لها، ورأيت أن تشعب الحوار لم يكن أقل تعقيدا مما يجري في العالم العربي، وذلك لسبب بسيط هو أن معظم الذين يتناولون الفكر النظري يفتقرون إلى الخبرات العملية في الدول التي حققت تقدما في نظمها الاجتماعية والسياسية مثل معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وإذا أراد هؤلاء أن يتناولوا ما يجري في الدول الغربية قالوا إنها سارت في طريق طويل من التقدم واستطاعت في آخر الأمر أن تحقق ما تريد، وكأن العالم العربي يسير في الطريق نفسه، لكن معظم الذين يتناولون هذا الواقع يتخذون بصورة تلقائية مواقف سلبية من نظم الحكم الغربية ويفضلون أن ينعتوها بأنها ذات طبيعة استغلالية لا تريد أن تمرر تجربتها إلى الدول المتخلفة وتفضل استغلالها بدلا من تنميتها.
وعلى الرغم من ذلك فإن الذين يتناولون هذه القضية لا يحاولون الوقوف عند الخطأ الذي ارتكبه المثقفون العرب في مرحلة من المراحل خلال الحرب الباردة عندما تبنوا نظريات الفكر الاشتراكي والشيوعي دون أن يقفوا عندها وقوفا متأملا بكون هذه النظريات كانت تمني الفقراء بالعدالة والاشتراك في صنع القرار، لكن ذلك لم يتحقق في أي دولة عربية بل رأينا بدلا من ذلك قيام أنظمة عسكرية استبدادية تسيطر على الشعوب وتستنزف ثرواتها دون أن تحقق تقدما في داخل مجتمعاتها، وقد أحدثت هذه الأنظمة الاستبدادية فرقة في داخل المجتمعات العربية عندما قسمت الدول العربية إلى دول تقدمية ودول غير تقدمية في وقت تقدم فيه الدول التي لا تخضع للأنظمة العسكرية لشعوبها ما لا تقدمة النظم العسكرية التي وصلت إلى قمة مأساتها في ما يجري في سورية في الوقت الحاضر، ويقودنا ذلك إلى التوقف عند بعض المفهومات التي تطرح ولكنها لا تطرح بصورة سليمة، وأولها تلك المفهومات التي تتعلق بمفهوم الديموقراطية الذي يعتقد الكثيرون أن تحقيقه يعني خروج العالم العربي من الواقع الذي هو فيه إلى واقع جديد، دون أن يدركوا أن مفهوم الديموقراطية انحصر في مظهر واحد وهو الانتخاب دون النظام الذي يؤسس عليه هذا الانتخاب، ذلك أن كثيرا من الذين يحاولون الوصول إلى السلطة في العالم العربي إما هم طوائف أو قبائل أو دكتاتوريون يحاولون أن يضفوا شرعية على نفوذهم بواسطة الانتخاب، دون أن يدركوا أن الانتخاب هو وسيلة النظم المتطورة من أجل التمكن من تحقيق المطالب الشعبية العادلة، كما يحدث في بلد مثل بريطانيا، بكون المنافسة الحقيقية في بريطانيا تتم بين عدد محدود من الأحزاب ذات البرامج المحددة التي تمكن الشعب من الاختيار السليم لمن يحكمونه في إطار الضوابط التي تقيد كل من يعمل في المجال السياسي، وهنا يجب أن نشير إلى أن الشكل العام لا يتقيد بصورة معينة إذ نحن نجد نماذج رئاسية كما هو الشأن في الولايات المتحدة وفرنسا، كما نجد نظما ملكية كما هو الشأن في بريطانيا وهولندا، ولا تتأثر كل هذه النظم بنوع الرئاسات التي تقوم عليها لأن المهم دائما هو أن تتحقق المصالح لكل أفراد الشعب.
وتتحقق المصالح في العادة عندما تصل هذه الفوائد لكل الناس ليس من خلال استغلال امكانات الدولة بل من خلال التنظيم والاستفادة العادلة لثروات البلاد، وبالطبع لا تتفق سائر البلاد في أساليب هذه الاستفادة إذ تختلف بحسب النظم السائدة في البلاد المختلفة وكيفية جعل المواطنين يستفيدون من تلك الفوائد، وفي بلد كبريطانيا نرى أن هناك نظاما متطورا للضمان الاجتماعي، إذ سائر الناس يدفعون الضرائب المناسبة من أجل تدعيم صناديق الضمان، ولا نجد الناس يتهربون من دفع الضرائب لأنهم يعلمون أن فوائدها تعود عليهم من خلال نظام المعاشات والضمان، وهو النظام الذي يعطي المتعطلين احتياجاتهم واحتياجات أبنائهم ويجعلهم يواجهون أعباء السكن في بيئة اجتماعية مريحة.
ومما يوفره الضمان الاجتماعي العناية الطبية المجانية وكذلك التعليم المجاني للأبناء وتحديد سن للتعليم الإلزامي بحيث يحقق الأبناء جميعهم المستوى المطلوب من التعليم.
وإذا توقفنا عند كل ما ذهبنا إليه تأكد لنا أن المسألة لا تتعلق بمرحلة زمنية يصل بها المجتمع إلى مثل هذا التقدم، ولكنه محتاج إلى رؤية واضحة وسليمة، ومتى وجدت مثل هذه الرؤية عاشت الشعوب في سلام وأمن في إطار النظام الذي يحقق الخير للجميع، وبدون ذلك يحدث العكس، وإذا اتخذنا السودان مثالا بما حدث قبل مرحلة انفصال الجنوب تأكد لنا كل ذلك، فقد ظللت دائما أقول إن السودان بلد محكوم عليه بالوحدة لأن الجنوب منطقة مغلقة ودارفور أيضا منطقة مغلقة، والأفضل للجميع أن يعيشوا في ظل دولة واحدة متحدة بشرط أن يكون هناك نظام اجتماعي يحقق الخير والفائدة للجميع على النحو الذي شرحناه من قبل، ولكن الجنوبيين في السودان لم يفكروا في هذا الأمر وقرروا الانفصال، وعلى الطريق نفسه تسير بعض الحركات المسلحة في دارفور، ويخيل لي في ضوء هذا الواقع فإن المطلوب هو ارتفاع مستوى الوعي الثقافي وادراك ما تحتاج إليه الدول في تطوير نظم حياتها وأنظمتها الاجتماعية، ويجب هنا التوقف عند ما حققته الدول المتقدمة في العالم الغربي لإدراك كيفية التحول من نظم الفقر والاستبداد إلى نظم العدالة والضمانات الاجتماعية والخير.
وعندما تتضح معالم الصورة سيدرك الجميع المعنى الحقيقي لمفهوم الديموقراطية على أنها نظام يتحقق في إطار نظام اجتماعي وسياسي متكامل، ولا يتوقف مفهومها عند إرادة مجموعات غير مؤهلة للوصول إلى الحكم .وهنا يجب أن نفرق بين مفهومي الديموقراطية والسلطوية لأنه بدون هذا التفريق سيظل العالم العربي يمشي في طريق مغلق دون أن يكون قادرا على تحقيق أهدافه.
وربما كانت ظروف التخلف الاقتصادي في هذه المرحلة هي التي تحول دون أن يحقق العالم العربي أهدافه السياسية على الرغم من الطموحات التي ظهرت في تحركات الشعوب أخيرا، وهي تحركات كانت تركز على إزالة سلطة وإقامة سلطة جديدة دون أن تركز على الأسس التي يقوم عليها نظام هذه السلطة على النحو الذي عرضناه من قبل.
ويخيل إلي في هذه المرحلة أن العالم العربي بحاجة إلى تطور فكري وليس فقط إلى حوار فكري، ذلك أن الحوار الفكري قد يظل مغلقا في المفاهيم المغلقة نفسها أما التطور الفكري فهو الذي يتجه نحو فتح النوافذ المغلقة في الواقع العربي السياسي.
‘ القدس العربي -كاتب من السودان