نجحت القوى الرجعية العربية، بوجهيها السلطوي والراديكالي، في تحويل مسار «الربيع العربي» من أجندة الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان إلى أجندة الأمن والاستقرار تحت غطاء ما يطلق عليه «الحرب على الإرهاب». ومثلما جرى تخويف الشعوب من موجة «أسلمة» متوهّمة للثورات العربية، وذلك في محاولة مبكرة لوقف قطار التغيير، يجري الآن العمل على إخراج سيناريو جديد هو سيناريو «الدعشنة» و «العرقنة» الهادف لإجهاض آمال التغيير وتثبيت السلطوية كخيار وحيد. وفي حين تبدو خيوط اللعبة الإقليمية معقدة ومتداخلة، فإن ما هو مؤكد منها أنها لا تسير لصالح «الربيع العربي» ولا تخدم سيناريوهات التغيير السلمي والانتقال الديموقراطي في المنطقة، ما يترك مآلات التغيير مفتوحة على كل الاحتمالات.
تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» أو ما بات يعرف بتنظيم «داعش» هو أحدث تجليات الفشل العربي شعوباً أو حكومات، دولاً ومجتمعات. وهو الآن بمثابة «أخطبوط» مصنوع تمتد خيوطه من الخليج إلى الفرات ويجري استخدامه بأدوات وطرائق مختلفة في إطار صراع مكتوم بين قوى وأنظمة إقليمية تتصارع أحياناً وتتعاون أحياناً أخرى. صراع يتداخل فيه الطائفي مع السياسي، والمذهبي مع الاستراتيجي في لعبة خطيرة تختلط فيها الأوراق ويصبح فيها «داعش» أحياناً (ويتم توظيفه) كمسمار في نعش نظام طائفي بغيض، في حين يبدو في أوقات أخرى كما لو كان «شبحاً» يسعى لطمس الحدود وإعادة رسم الجغرافيا والتاريخ. وإذا كان «داعش» يخدم مصالح أطراف بعينها اليوم، فهو ذاته سوف يمثل تهديداً وعبئاً عليها غداً. والحقيقة المؤكدة في هذا كله، أن المنطقة لم تعد ملكاً أو تحت سيطرة القوى والأنظمة التقليدية، بل تنازعها في ذلك تنظيمات وكائنات هجينة ومشوهة «ما دون الدولة» تعتاش على أزمات سياسية وطائفية ومذهبية تمتد من الخليج وحتى المشرق العربي وقد تنتقل قريباً إلى الجزء الغربي من المنطقة.
قد يبدو لوهلة أن أولئك الذين خططوا وسعوا لإفشال «الربيع العربي» منذ انطلاقه قد نجحوا في مسعاهم، خاصة بعد أن روجوا أن «الثورة» مرادف لـ «الفوضى»، و «التغيير» مقابل لـ «عدم الاستقرار»، و «الحرية» معناها «التفكك» والديموقراطية تعني «الانهيار»، بيد أن البديل المطروح الآن يبدو مرعباً ومحققاً كل نبوءات «الفوضى وعدم الاستقرار والتفكك والانهيار. فقد بات «داعش» بمثابة النموذج الوحيد، وربما الأنجع، «من أجل إنجاز التغيير ولو بالسلاح والدم» مثلما يردد شباب كثر في منتدياتهم وعلى شبكات التواصل الاجتماعي. كان من السهل هزيمة الإسلاميين المسيّسين في صناديق الاقتراع، خاصة بعدما انكشفت الأيديولوجيا وسقط المشروع، وكان من الأفضل أن يقول الشعب، لا العسكر، كلمته في تحديد مصيرهم. ولكن بعد تصدير خطاب «الفوضى» و «الانهيار»، انطمست الحدود الفاصلة بين التغيير والتفكيك، بين الثورة والعنف، بين التظاهر والتسلح. بالنسبة إلى كثير من الشباب لم يعد طريق الحرية يمر عبر ميادين «التحرير» وإنما عبر «دروب المجاهدين».
قبل بدء «الربيع العربي» كان الجميع ينتظر إصلاحاً يعيد الاعتبار إلى المجتمع مقابل الدولة، والفرد مقابل السلطة، ولما فشلت مساعي الإصلاح كان الشباب العربي يعتصم فى ميادين التغيير ويطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. الآن تم فض وإخلاء الميادين، وجرى اعتقال الشباب، وسقطت آمال الإصلاح والتغيير السلمي. وتبدو عمليات الإجهاض الممنهج لمحاولات التغيير السلمي بمثابة تكتيك للتثبيط والتشتيت ولكن أيضا للتثوير وتغذية مشاعر الكراهية والانتقام.
ليست المشكلة الآن في مدى وإمكان إنجاز التغيير، فهو أمر محتوم ما لم يتم الإيفاء بالحريات والحقوق، وإنما في تكلفته وثمنه، فما يحدث الآن في العراق يتجاوز البعد «الداعشي» ليكشف عن سياسات طائفية وتمييزية ممنهجة جرت بحق قطاع كبير من العراقيين الذين دفعوا، ولا يزالون، ثمناً لديكتاتورية الأغلبية بعدما دفعوا ثمن ديكتاتورية الفرد تحت حكم صدام حسين. وهو أمر كان يمكن تفاديه لو أحسن نوري المالكي إدارة علاقته ببقية طوائف المجتمع، وخصوصاً السنّة. ولربما بقيت سورية التي نعرفها قائمة لو أدرك الأسد مخاطر القمع والتسلط والتهميش، ولربما ظل السودان موحداً لو أقام عمر البشير دولته على أساس المساواة والمواطنة، ولربما نجحت ليبيا في الخروج من الماضي لو استفاق القذافي مبكراً وبنى دولة حقيقية… إلخ.
لسنا مضطرين لأن نمر بما مرت به أوروبا خلال قرونها الوسطى من حروب وقتال ودمار وخراب. ولسنا أقل من دول آسيوية أنجزت سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً. يخطئ إذاً من يظن أن التخلص من «الربيع العربي» سوف يجلب الاستقرار والهدوء أو قد يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل أربع سنوات. وواهم أيضاً من يظن أن الأجيال الجديدة سوف تقبل العيش في جلباب آبائها وترضى بالإقصاء والتهميش والصمت. صحيح أن البديل الإسلامي قد تم إفشاله، وصحيح أيضاً أن البديل «الثوري» قد تم تشويهه، لكن الصحيح أيضاً أن البديل «الراديكالي» يبدو الآن الأكثر جاذبية وانتعاشاً لدى الجيل العربي الشاب. ومن المتوقع أن ينتعش سوق «الراديكالية» السياسية والدينية في الفضاء العام وأن يكتسب أنصاراً جدداً ليس لهم من هدف سوى إسقاط البنية السلطوية القديمة.
إذا كانت «الثورة المضادة» قد نجحت في تعطيل قطار «الربيع العربي»، فإنها ومن دون أن تدري، قد ساهمت في دفع قطار «الفوضى» إلى مداه، وهو ما يجعل أبواب الصراع في المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات
الحياة اللندنية