خصخصة القطاع العام الإنتاجي في البلاد لا رجعة منها هذه المرّة. ليس في هذا التوصيف تجنٍ بعدما بيّن تقريرٌ صدر عن وزارة الصناعة السورية مطلع شهر نيسان/أبريل 2014 أن قيمة الأضرار الأولية التي لحقت بالقطاع العام الصناعي تجاوزت 155 مليار ليرة حتى بداية الشهر الثالث من العام الحالي، منها نحو 53 مليار ليرة كأضرار مباشرة، و72 مليار ليرة كأضرار غير مباشرة. التقرير وثّق تعطل 49 شركة ومعمل ومحلج من المنشآت التابعة لوزارة الصناعة جرّاء تخريبها، من دون أن ننسى 14 شركة ومحلجاً كانت متوقفة بالأصل قبل العام 2011.
آخر لجان الإصلاح
إذاً 63 منشأة صناعية تتبع لوزارة الصناعة توقفت عن العمل. والرقم المُقلق لأنه يعني أنّ أكثر من نصف مؤسسات وشركات القطاع العام الصناعي، البالغ تعدادها 112 شركة يعمل فيها 80 ألف عامل، أصبحت خارج الإنتاج.ولا يبدو أن إعادة تأهيل هذه المنشآت ينسجم مع المساعي الحميمة للحكومات السورية المتعاقبة بعد العام 2007، بعد اختيارها مسلك خصخصة القطاع العام الإنتاجي مراراً، متذرعة بالمؤشرات السلبية لأداء هذا القطاع لانخفاض إنتاجيته بنسبة 15 في المئة بين عامي 2000 و2008. فخلال الفترة الممتدة بين عامي 2004 و2008، انخفض إنتاج 54 صناعة تحويلية من أصل 93 تتبع القطاع العام، على الرغم من الكتلة النقدية الكبيرة المستثمرة فيه، والتي بلغت خلال تلك المدّة 116 مليار ليرة، تشكل الأجور منها أقل من الربع. لكن هل كان هناك أي تفكير جدّي بإصلاح القطاع العام الإنتاجي هنا؟
بالعودة إلى أواخر شهر شباط/ فبراير 2007، كلف رئيس الوزراء السوري آنذاك (محمد ناجي عطري) لجنة القطاع العام الصناعي بوضع إطار تشريعي لإصلاح القطاع العام الصناعي. لم تكن اللجنة الأولى من نوعها، بل سبقتها إلى المسعى الإصلاحي ثلاث لجان على الأقل، منها اللجنة 35 واللجنة 117 واللجنة 118، ولم تأت أي منها بنتيجة. فعقيدة السلطة في سوريا لم تكن مناسبة لجدية الإصلاح المطلوب، والدليل على ذلك توقف مساعيها مع آخر اللجان، بالإضافة إلى صدور القانون المالي الجديد للدولة العام 2006، بحيث لم تعد مؤسسات القطاع العام الإنتاجي قادرة على تمويل استثماراتها إلا من فوائضها المالية المتحققة، أو بالاقتراض من السوق المالية، أو بطرح أسهمها على الاكتتاب العام. وتمكن هذا القانون على سبيل المثال أن يُهلك بلا رأفة شركة بحجم شركة «بردى» (من أضخم شركات الهندسة المعدنية). ومع صدور هذا القانون، بات من الضروري التساؤل عن رغبة السلطة في سوريا بإضعاف القطاع العام الإنتاجي لتتمكن من بيعه من دون أي ملامة لاحقة.بين 2006 و2008، لم يتم إنفاق سوى 12.3 في المئة من إجمالي الإنفاق الاستثماري المرصود للصناعات التحويلية والبالغ في الخطة الخامسة عشرة 104.8 مليار ليرة.
لنلاحظ أيضاً تعثّر مقترح تحويل إنتاج شركة «كبريت دمشق» إلى الأغطية المعدنية للـ«مرطبانات» في تشغيل كامل لعمالة الشركة البالغة 518 عاملاً مع قيمة مخازين بلغت العام 2007 نحو 9 ملايين ليرة. غابت أيضاً الجدوى الاقتصادية عن مقترحٍ هزيل لتحويل إنتاج معمل أخشاب اللاذقية إلى «أم دي أف». كما خاب مقترح تحويل إنتاج معمل «إسمنت دمر» إلى الأمينيت الأزرق ثم الأبيض، مما أفضى إلى مخزونٍ تراكمي من الأنابيب بلغت قيمته العام 2007 نحو 50 مليون ليرة. لاحقاً لم يلقَ طرح السلطة لمعمل «أخشاب اللاذقية» ومعه شركة «كبريت دمشق» ترحيباً استثمارياً من القطاع الخاص، على غرار استثمار «الكزبري» لمعمل ورق دير الزور بكامل عمالته وبكامل خسائره. والسلطة كانت تعيب على شركة «غزل جبلة» قيمة «الاهتلاك» المرتفعة لديها حين تبلغ 800 مليون ليرة سنوياً، وتمتعض من شركة «المصابغ» في حمص حين تستدين من شركات أخرى لتأمين رواتب عمالها… في وقتٍ حجبت فيه السلطة عن شركة «بردى» سلفة تمويلية بقيمة 200 مليون ليرة كانت قد طلبتها العام 2007 حتى لا تقع الشركة التي تشغّل 830 عاملاً، في خسارة منهكة، وهو ما حصل.
2008 عام الخصخصة بالجملة
عام 2008 كانت «النيوليبرالية» تفضح وجه الاقتصاد السوري. رفع الدعم عن أسعار المحروقات كان قد بدأ للتوّ، ودخلت السلطة في برج الاستثمارات العقارية ذات الآثار التضخمية. وللمرة الأولى طرحت وبالجملة، 40 شركة إنتاجية تتبع للقطاع العام، على الاستثمار السياحي كمعمل إسمنت دمر وشركة «كبريت دمشق» وشركة «كونسروة الحسكة» ومعمل «برج إسلام» للإسمنت في اللاذقية ومعمل الأخشاب والمحركات والألمنيوم ومعمل شاشات الأبيض والأسود التابع لـ«سيرونكس» على طريق حلب. وفي العام نفسه، قررت السلطة رسمياً الخصخصة، ونعت للناس أرقام الخسارات في منشآت القطاع العام. قالت السلطة إن خسائر معمل إسمنت «دمر» وصلت إلى 21 مليون ليرة العام 2006، وديونه المتراكمة بلغت 360 مليون ليرة. ومعمل أخشاب اللاذقية خسر العام 2007 نحو 36 مليون ليرة، وفاقت خسائر معمل محركات اللاذقية 82 مليون ليرة، أما خسارة معمل ألمنيوم اللاذقية فقد بلغت 68 مليون ليرة. لكن وبالمقابل تمكنت شركة «إسمنت عدرا» في صيف العام 2011 من تطوير خط إنتاجها الثالث بهدف رفع إنتاجيته إلى 1100 طن يومياً.
وفي الفترة نفسها باشرت شركة «الشهباء للإسمنت» في حلب إدخال تعديلات على مطاحن الإسمنت، فقامت بشراء فارزة جديدة، وقبله بتركيب خط تغذية جديد لأفرانها، ومبرّد لمادة «الكلنكر» (مادة تستخدم في صناعة الاسمنت)، فارتفعت إنتاجية الخط الثاني في الشركة لتصبح 1000 طن في اليوم. في العام 2006 وصلت صادرات الشركة السورية لصناعة الزيوت النباتية في حلب إلى استراليا، وكانت الشركة قد أنجزت تبديلاً كاملاً لخطوط إنتاجها العام 2007. وبلغت أرباح شركة «كابلات دمشق» حوالي 1.15 مليار ليرة في العام 2013… كيف إذاً تفسّر السلطة وجود معاملٍ منتجة ورابحة تستطيع التوسع، في حين تخسر معامل أخرى تنتج المادة نفسها؟!بين العامين 2006 و2009 حققت المؤسسات الإنتاجية التابعة لوزارة الصناعة السورية أرباحاً وصلت قيمتها إلى 55 مليار ليرة، وتم تحويل 39 ملياراً منها إلى الخزينة العامة للدولة كفوائض اقتصادية، ودرّت على الخزينة قرابة 120 مليار ليرة كضرائب دخل أرباح ورسوم ضريبية.وهذا يعني أن الخسارة لا تأوي إلى مؤسسات القطاع العام الإنتاجية من باب شكل الملكية، بل إلى السلطة الفعلية التي تدير هذا القطاع، والتي تحتمي خلف توصيفٍ متقن لأسباب خسارة القطاع العام الإنتاجي خلال العقد الماضي على الأقل. فمثلاً تقوم السلطة بالتركيز على المخازن الكبيرة غير المسوّقة، وعلى غياب ربط الإنتاجية بالأجور، وإهمال التركيز على الجانب التسويقي، وعلى نظام العقود المكبّل لإدارات هذه المؤسسات، وحرمانها من فوائضها الاقتصادية، بالإضافة إلى تحويل تلك الفوائض إلى صندوق الدين العام، على طريقة شراء واستئجار ضخّمها الروتين بلجانه العديدة، وعلى البعد الاجتماعي للتوظيف. كما هناك مشكلة التشابكات المالية التي عطٌلت تطوير العديد من الشركات على الرغم من صدور القانون 48 للعام 2003 القاضي بإنهائها… والتسعير الإداري لمدخلات الإنتاج أو مخرجاته، خاصةً في مؤسسات ومعامل قطاع النسيج.
التفكير بالشركات القابضة
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، استعادت السلطة في سوريا الحديث عن خصخصة القطاع العام الإنتاجي. بدت أكثر مواظبةً وحماساً، فزادت على قائمة الشركات والمنشآت التي طرحتها للاستثمار الخاص شركة «الكرنك» للنقل وشركة «بردى»، وشركة «الصناعات الكيميائية والدباغة»، وشركة «الكونسروة»، وشركة «الساحل للصناعات الغذائية». وفي أواخر أيلول/ سبتمبر 2012 قررت السلطة تحويل شركات القطاع العام الإنتاجي إلى شركاتٍ قابضة. حينها بدا وكأنه طرح فقير لا يستند إلى أي منهجيةِ تطبيقٍ فعلي، إلا إذا باعت الأصول، وتنازلت عن حقها في الملكية… وهذا على الأرجح ما تريد السلطة أن تقدم عليه.