كان السؤال موجهاً إلى سوري، يفترض أنه هارب من هول الحرب. كيف تركت حال بلادك؟ أجاب: «صعيب بالزّاف». يمكن أن تكون هذه نكتة، للحديث عن ظاهرة «السوريين المزيفين». إنهم المواطنون العرب الساعون إلى اللجوء في أوروبا بأي طريقة، فكانت الحاجة أم الاحتيال.
لكن قصة المواطن المغربي المدّعي حدثت بالفعل، وأمكن معاينتها صوتاً وصورة. ليست حالة معزولة، فالظاهرة متنامية كما يؤكد مسؤولون أوروبيون تحدثوا إلى «السفير» عنها. هناك قصص واقعية أخرى نروي تفاصيلها من فم من عايشها. المراكز المتخصصة بكشف هذا التحايل تقف عاجزة حينما يكون محكماً، وحينما يتدخل الحظ.
أحد المطلعين عن قرب على الظاهرة هو المكتب الأوروبي لدعم اللجوء. في مقابلة مع «السفير» يلفت مدير الوكالة الأوروبية البروفسور روبرت فيسر إلى وجود معلومات موثوقة تؤكد أن «السوريين المزيفين» ظاهرة متنامية.
يقول فيسر إن «هناك عدداً متزايداً ممن يدعون أنهم قادمون من سوريا». كيف يمكن تأكيد ذلك؟ يرد مباشرة: «لدينا في ميدان العمل مصادر معلومات جيدة ومباشرة من مكاتب اللجوء، ومن الأفراد الذين يجرون المقابلات» للتحقق من طالبي اللجوء.
معطيات الوكالة الأوروبية، التي تتخذ من مالطا مقرّاً لها، لا تأتي فقط عبر التبادل الروتيني للمعلومات. لديها برامج تدريب تقدمها فرق خبرائها لمفوضيات اللجوء في السويد وإيطاليا واليونان وبلغاريا ولوكسمبورغ. بين هذه الدول من هي الأكثر تعرضاً للظاهرة، بحكم الأمر الواقع: السويد وألمانيا تستضيفان حوالي 60 في المئة من اللاجئين السوريين في أوروبا، منذ العام 2011، وكل منهما استقبلت قرابة 26 ألف لاجئ.
برغم شيوع الظاهرة، لكن لا يمكن التصدي لها وفق نهج وخطة مشتركة. يبقى التقييم مسألة متعلقة بالحالات الفردية، وفق ما يؤكده فيسر: «حينما يرفع شخص يده ويقول أنا سوري، حينها لديك عملية كاملة لمعرفة إذا كان ما يقوله صحيحاً أم لا».
حالات الاحتيال بينها من مستوى عال وبينها المبتدئة. أحد الأمثلة على المستوى الثاني قصة لا تزال فصولها جارية، ينقلها مسؤول أوروبي موثوق يعمل لإحدى وكالات اللجوء في عاصمة أوروبية غربية. شدد على عدم كشف هويته لأن قلة هم المطلعون على تفاصيل التحقيقات الشخصية.
حالة مواطن لبناني
هذه الحالة المبتدئة لمواطن لبناني. اللافت أنه يتحدث لهجة بلاده بشكل فاضح، ومع ذلك يدّعي أنه سوري كان يعيش في إحدى ضواحي دمشق التي عاشت اشتباكات عنيفة. لم يكن يحمل أي وثائق سورية تثبت ادعاءه. ليتملص من أي إحراج، قال هذا الشاب للمحقق إنه «لا يعرف شيئا، وأبوه يقوم بكل المسؤوليات بدلاً منه». تكراره أنه جاهل بما كان حوله، في المقابلة الأولى، ولّد شكوكا عند المحقق، فطلب منه استجواباً مطولاً. لم يستطع وصف المكان المفترض أنه عاش فيه. عجز عن وصف العلم السوري والعملة المستخدمة. لم يتمكن من الحديث عن برامج التلفزيون المحلي، بل بقي يردد كما ينقل المسؤول الأوروبي: «أنا لا أرى التلفزيون. ليس لدي نشاطات ولا أتحرك سوى من العمل إلى البيت والعكس».
لسوء حظ المواطن اللبناني المدّعي أن من تولى الترجمة كان خبيراً بلهجات المنطقة. عادة، لا يتدخل المترجم أبداً في سياق الاستجواب، ويكتفي بنقل المحادثة بين الطرفين. لكن من صلاحيات المحقق فقط أن يسأله ما رأيه حول لهجة طالب اللجوء، والمترجم قال ما كان جليّا لأي عارف باللهجات «الرجل يتحدث اللهجة اللبنانية بوضوح».
حتى حالة مفضوحة كهذه لديها حظوظ في أن تمرّ. مسألة المترجم أحياناً تكون مفصلية، خصوصاً أن المحققين لا يتحدثون العربية. هناك دور للحظ في كل شيء، كما يؤكد المسؤول الأوروبي: «ربما هناك مترجم عراقي لا يمكنه تمييز اللهجة السورية من اللبنانية. مع مترجم مغربي سيكون التمييز شبه مستحيل، وأقصى ما يمكنه تحديده هو القول إن اللهجة تبدو مشرقية، فكيف بتمييز اللهجات السورية من بعضها؟».
بالرغم من أن المحقق كان متأكداً من أنه أمام «سوري مزيّف»، لكن رفض الطلب يحتاج الحسم. الرفض يتم إرفاقه بتقرير يشرح أسبابه بالتفصيل، ويمكن لطالب اللجوء الاعتراض عليه ورفع قضية أمام المحاكم. هكذا تصير سمعة المفوضية «على المحك» إذا ازداد عدد القضايا التي تخسرها، وستلاحقها «اتهامات الرفض لأسباب واهية».
لإخلاء المسؤولية الشخصية أيضاً، قرر المحقق وجوب إحالة ملف المواطن اللبناني على خبير اللغة.
لن يجد اللبناني المدّعي نفسه وحيداً كبطة سوداء. تدفق التسجيلات الصوتية يتزايد إلى الغرف المغلقة، حيث يصغي خبراء اللغة إلى حديث أشخاص لا يعرفونهم. عليهم البتّ إن كان صحيحاً ما يدعيه طالبو اللجوء بالانتماء إلى هذا البلد أو ذاك.
مراكز متخصصة باللغات
المراكز المتخصصة بهذا الموضوع ليست موجودة في كل الدول الأوروبية. من أبرزها مركز هولندي، يوفر خدماته أيضاً لدول أوروبية أخرى.
يعمل المركز منذ العام 1999 كأداة في خدمة مديرية اللجوء، ويضم فريقاً من الخبراء باللهجات. لضمان الموضوعية لا يعمل الخبراء كمترجمين، ولا تقدم لهم أي معطيات حول طلبات اللجوء وأصحابها. علاقتهم بهم تنحصر بالحديث الذي يسمعونه في التسجيل الصوتي. وظيفتهم الحكم إن كان المتحدث «يتكلم اللغة بوصفها لغته الأم، أو بشكل متوسط أو سيئ».
هولندا ليست من الدول الأوروبية الأكثر استقبالاً للاجئين السوريين. عددهم فيها في العام 2013 كان أقل من 2700 من أصل أكثر من 17 ألف طالب لجوء من مختلف أنحاء العالم. مع ذلك، سجّل مركز تحليل اللغات حالات احتيال.
هذا ما أكدته لـ «السفير» سينتا فان غورب، المتحدثة باسم وزارة الأمن والعدل الهولندية. قالت إنهم اكتشفوا بعض الحالات التي «أظهرت فيها نتائج تحليل اللغة أن الأشخاص كانوا من بلد مختلف». أي أنهم كانوا كما تشدد «سوريين مزيفين». هناك مجموعة أخرى أظهر فيها تحليل اللغة أن المدعين لديهم «لهجة هجينة»، مع احتمال أن يكون بعضهم سوري الأصل لكنه قضى وقتاً طويلاً خارج بلده.
مفوضية اللجوء تقوم عادة بإعلام طالب اللجوء بأنه سيخضع لاختبار لغة. يمكنه الحديث عن أي موضوع يريده مستخدماً اللغات التي يعرفها بغرض إثبات ادعائه. لتكون المسألة حاسمة، يخضع قرار محلل اللغة بدوره لمراجعة أخيرة من قبل عالم لغوي يعمل للمركز. يمكن للاجئ الاعتراض، وطلب محلل لغة آخر، لكن مع نفس التسجيل الصوتي الذي يتم الاحتفاظ به كجزء من ملفه.
ليس واضحاً إن كان تزايد حالات «الادعاء» هو ما يدفع المركز إلى تغيير أسلوبه. التقت «السفير» في هولندا لاجئاً سورياً روى أنه قابل سورياً كردياً من عفرين، طلب منه المحقق التحدث هاتفياً إلى خبير اللغة. كان هنالك شكّ بأنه كردي من العراق، لكن الخبير أكد بعد المحادثة أن الرجل صادق.
لكن مركز التحليل الهولندي ليس مختبراً لقطع الشك بيقين كامل. كان ذلك واضحاً في العام 2007، حينما أعلنت المفوضية الهولندية أنها ستعفو عن كل من يعترف بأنه احتال حول انتمائه لبلد معين. برغم كل تدقيقات مركز تحليل اللغات، أفلت منه 110 أشخاص جاؤوا واعترفوا بأنهم كذبوا. لم يكشفهم لا تدقيق خبير اللغة ولا عالمها. لتقدير «هامش» الخطأ، ومداه، يمكن التفكير منطقياً بعدد المحتالين الذين لم يعنهم «الاعتراف الطوعي».
استحالة تعطيل كل حالات التزييف، مسألة يؤكدها مدير الوكالة الأوروبي لدعم سياسات اللجوء. يقول البروفسور فيسر إنه «لا أحد، ومن المستحيل، ضمان نتائج صحيحة مئة في المئة». يشدد على أنه مهما كانت الاستجوابات محكمة «أحياناً توجد ادعاءات حول أوضاع معينة لا يمكن اكتشافها، وكل ما يمكن فعله هو اكتساب المحققين المزيد من التقنيات والمهارات، وتدريبهم» لتقليل هامش الاحتيال الناجح.
مستوى احتيال متقدّم
لكن هناك حالات «سوريين مزيفين» تجاوزت عقبة اللغة. إنه «المستوى المتقدم» من الاحتيال، كما يصفه المسؤول الاوروبي الذي احتكّ به عن قرب. يورد حالة مواطن تونسي تحدث خلال الاستجواب بلهجة بلاده، لكنه يزعم أنه جاء من سوريا. قال للمحقق إن أمه تونسية، وعاش طوال حياته في تونس، لكنه بسبب مشاكل عائلية غادر إلى سوريا قبيل «الثورة». ليس لديه أي وثائق، ويصر على أنه هرب من أجواء الحرب.
يقول الموظف الأوروبي عن هذه الحالة: «هنا هو لا يكذب، فاللهجة لا علاقة لها لأنه لم يدع أنه يتحدث غير التونسية، لكن المشكلة تبقى التحقق من صحة قصته».
ليست هناك سياسة لجوء أوروبية موحدة. لكن في دول أوروبا الغربية، بلجيكا مثلاً، يكون الاستجواب الأول لطالب اللجوء سريعاً، بحدود الربع ساعة. يُدعى إلى استجواب ثان، تتراوح مدته بين ساعة وأربع ساعات. لكن هناك مقابلات تمتد لثماني ساعات أحياناً. يمكن للمحقق طلب استجواب ثالث، في حال ارتأى أن هناك ما يحتاج للاستيضاح. عادة يتم البت بالطلب في فترة تتراوح بين ثلاثة أسابيع إلى شهرين.
يتدرج قرار المفوضية بين منح اللجوء، وصولاً إلى إعطاء «حماية موقتة» يتم تجديدها دورياً ما لم تستقر أوضاع البلد الأصلي. الحالتان السابقتان يحصل فيهما طالب اللجوء على المساعدة المالية والإقامة الشرعية. في حالات أخرى يُمنح طالبو اللجوء إذناً لإقامة شرعية في البلد فقط.
هناك أخيراً قرار الرفض، الذي يعني أن الشخص عليه أن يغادر، وإن لم يفعل فإنه يبقى في وضع معقد. سيكون غير شرعي، ولن يحصل على أي وثائق رسمية لازمة للعمل وغيره.
بعد أشهر من حالة الارتباك، وجّهت السياسة الأوروبية مفوضيات اللجوء إلى عدم رفض طلبات السوريين. يؤكد العاملون في هذا الحقل أن «السوريين الحقيقيين»، بمجرد شرحهم أنهم هاربون من خطر الحرب، يحصلون على أحد أنواع الحماية.
لكن لا تساهل أبدا في حالة «السوريين المزيفين». تؤكد ذلك لـ«السفير» آن ميخيلس، المتحدثة باسم المفوضية البلجيكية لشؤون اللجوء. تقول إنه «مع كل طلب لجوء يتم فحص جنسية طالب اللجوء بدقة». ماذا لو كان هناك احتيال؟ تجيب بنفسها «إذا وجدت المفوضية أنه تم ارتكاب غشّ في الجنسية، فسوف تأخذ قرارها بالرفض».
ليس هناك تقديرات يمكن الاستناد إليها لتحديد نسبة «السوريين المزيفين»، لكن يمكن البحث عن معيار.
أعداد اللاجئين السوريين تضاعفت في أوروبا، وبلغوا العام الماضي حوالي 50 ألفاً. بحسب الأرقام الأخيرة للمكتب الأوروبي للاحصاء «يوروستات»، «شكل السوريون ما يزيد على ربع الحاصلين على الحماية في مجمل الاتحاد الأوروبي، والتي منحت لـ135 ألف لاجئ من حول العالم».
لكن من أصل 50 ألف طلب لجوء للسوريين، تم رفض أكثر من 14 ألفاً. هؤلاء لم يحصلوا على شيء. لا على وضع لاجئ، ولا على حماية ولا إذن إقامة. يؤكد المسؤول الأوروبي ان هذا رقم كبير جداً، نظراً إلى توجيهات السياسة الأوروبية بالتعامل الإيجابي.
يقول إن «هذا يشكل معياراً يمكن الاستناد إليه. يمكن الافتراض أن نسبة مهمة من المرفوضين هم من السوريين المزيفين، لأن أحد أهم أسباب الرفض هو عادة الادعاء الكاذب».
ولا تكاد تلتقي لاجئاً سورياً، أقام في مراكز تجميع، إلا ولديه قصة عن «سوريين مزيفين». معظمها حالات يحاول أصحابها عدم الاختلاط والتكتّم خشية افتضاح أمرهم. تحدث لاجئون سوريون في هولندا إلى «السفير» عن لقائهم أردنيين ومغاربة يدعون أنهم سوريون.
روى أحد اللاجئين لقاءه بأردني أصرّ على أنه سوري من درعا، برغم أنه لم يتمكن من تقديم أي تفاصيل حول المدينة السورية. يضحك من قابل الأردني المدعي بأن حبل كذبه كان قصيراً جداً: «خلال أحد النقاشات نسي نفسه. كان يراقب طائرة تهبط في مطار قريب، وصار يتحدث عن مطارهم برغم أنه لا مطار في درعا».
البروفسور فيسر ليس جديداً على موضوع اللجوء. يحمل في جعبته خبرة تزيد على عشرين سنة في هذا الميدان، على الصعيد الوطني والدولي. في بلده هولندا، كان من كبار صانعي السياسة بالنسبة إلى قضايا اللجوء.
من واقع خبرته يؤكد فيسر أن التعاطي مع ظاهرة «السوريين المزيفين» يشكل «تحدياً حقيقياً ويومياً». يشدد على أن عمل وكالته يمتدّ أيضاً لمواجهة هذه القضية: «نقدم تدريباً على مهارات إجراء المقابلات مع طالبي اللجوء، تقنيات المقابلة ونوع الأسئلة التي يجب طرحها، وأيضاً بعض التدقيقات التي يمكن النظر إليها».
كلنا سوريون
بالعودة إلى المغربي الذي ادعى أنه سوري، هي حادثة التقطتها كاميرا التلفزيون البلجيكي الرسمي الناطق بالهولندية. لم يلاحظ معدو التقرير وقتها، من مركز لجوء في أثينا، أن الرجل يحتال. قدموه باعتباره سوريا «شهد المعاناة» وسط الحرب.
المفارقة القاتمة أن كاميرا التلفزيون البلجيكي نفسها التقت، قبل أيام، من يتحسّرون لأنهم بأمس الحاجة للادعاء أنهم سوريون. كانت الكاميرا تتجول في مدينة «مليلة»، حيث يتوافد لاجئون عبروا من المغرب إلى اسبانيا. تحدثت امرأة نيجيرية عن حالات الاعتداء، وبينها الاغتصاب، التي تواجهها النساء في طريق التهريب. قالت الشابة الأفريقية: «يفعلون هذه الأشياء معنا، لكن ليس مع السوريات لأنهن مسكينات كما يقول الرجال»، قبل أن تكمل بحسرة «لكن للأسف لا يمكنني القول إنني سورية».
ليس بعيدا عن ذلك ما رواه لـ«السفير» أب لعائلة سورية، عبرت البحر في «قوراب الموت» إلى إيطاليا. حينما وصلوا إلى صقلية طلب الإيطاليون أن يبقى السوريون جانباً. كان على القارب جنسيات عدة، مصريون وتونسيون ومغاربة. برغم أن المسألة لم تتعد إطار الإحصاء، يروي الأب أن «الوحيدين الذين لم يقولوا إنهم سوريون هم حوالي 80 شخصاً جاؤوا من أريتريا».
السفير