تعرض الرمال الصحراوية في مالي والجزائر مكاناً نادراً للتحدي الوجودي الذي يواجهه نظام التحالف الدولي الذي تمكنت الولايات المتحدة من إدارته منذ الحرب العالمية الثانية. لكن ردات فعل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي المترددة والخجولة لأزمات شمال غرب أفريقيا تبدو شبيهة بنقاط الأسيد التي تسقط على صخرة تماسك التحالف وتحتّها.
ويحظى تفضيل ما تصفه إدارة أوباما نفسها بأنه “القيادة من الخلف” للصراعات الفوضوية في العالم الإسلامي بقيمة كبيرة لدى الأميركيين القلقين المنهكين من الحرب والواقعين في شرك المصيدة المالية. لكنه يجب توخي الحذر الشديد إزاء هذا النهج بغية تجنب الدفع بالقيادة الأميركية إلى نهاية طريق استراتيجية مغلقة.
بعد أيام من تجليات التردد المعلنة من جهة واشنطن وبروكسل فيما يتعلق بتوفير حتى مساعدة غير قاتلة –مثل إعادة تزويد الطائرات بالوقود في الجو- لتدخل فرنسا المتردد في مالي، التزمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي يضم 27 دولة فقط بتقديم أربع طائرات نقل لدعم الجهد. وسيكون من شأن ذلك فقط أن يعزز الشكوك السائدة في الخارج إزاء نوايا الإدارة الأميركية وفعاليتها حين تجعل الآخرين يخطون هم إلى المقدمة مرة أخرى. وقد جاءت تلك الشكوك، والاضطرابات الجارية في مالي، كتداعيات للتدخل الدولي في ليبيا في العام 2011. ويلاحظ أن واشنطن قد عمدت إلى تقليص الموارد والمشاركة هناك بحدة بعد المساعدة في الإطاحة بمعمر القذافي.
وبدلاً من الزحف بالمهمة، واصلت إدارة أوباما السعي إلى تقليص البعثة والمهمات في بلد كانت قد ساعدت في تحريره لتوها فحسب. وقد ساهم عدم كفاية الأمن هناك في وفاة السفير كريستوفر ستيفنز وثلاثة أميركيين آخرين في بنغازي، ليبيا، في الخريف الماضي.
والآن، يهدد المرتزقة الطوارق من الذين فروا من ليبيا مصحوبين بأسلحة كثيفة بعد سقوط نصيرهم هناك، بالسيطرة الكاملة على مالي. وقد أثار اندفاع المتمردين الإسلاميين إلى الجنوب إرسال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند طائراته حربية والفيلق الخارجي إلى مستعمرة بلاده السابقة –وبالتالي إطلاق نداءاته للحصول على المساعدة من الحلفاء.
وقد توقع هولاند أن يقضى هذا الأسبوع مسربلاً بمجد الاحتفالات بالذكرى 50 لمعاهدة الأليزيه للتعاون بين فرنسا وألمانيا.
وكان شارل ديغول قد تصور تلك الوثيقة باعتبارها الأساس لخروج فرنسا من ماضيها الاستعماري إلى مستقبل أوروبي مبني على الشراكة الفرنسية الألمانية. لكن هولاند يتعامل بدلاً من ذلك، بتجهم الحارس الوحيد، مع حملة ما-بعد-استعمارية يائسة، والتي تقف تماماً على النقيض مع حذر ألمانيا المفرط إزاء التدخل العسكري الخارجي. وتعمل الخلافات المتنامية بين باريس وبرلين حول السياسات الاقتصادية والأداء أيضاً على تقويض الرؤية المشتركة والالتزام اللازمين للحفاظ على الوحدة الأوروبية.
ويبدو أن إدارة أوباما تعطي وزناً غير كاف للتفاعل المعقد بين الأجزاء كثيرة الحركة في العلاقات الدولية، بينما تطلق ردة فعل تكتيكية تلو الأخرى على قضايا مثل سورية وإيران، والصين، والآن على الطلبات المبررة للحصول على مساعدة سريعة، والتي يتقدم بها حليف أوروبي يرغب في القيادة من الأمام وفي الجبهة.
وتقع هذه اللامبالاة الاستراتيجية في قلب أزمة تجميع قائمة لإدارة التحالف. وعندما يتعلق الأمر بالجدارة، فإنني أوافق على العديد من قرارات الرئيس أوباما وسياساته الفردية. ولا شك أن جعل الآخرين يتحملون المزيد من أعباء القيادة وكلفتها يظل سياسة بعيدة كل البعد عن الحماقة. كما أن التحرك بحذر شديد إزاء سورية – يندرج في هذا الإطار أيضاً. لكنني أشعر بقلق متزايد من الافتقار إلى وجود علاقة استراتيجية بين القرارات التكتيكية الفردية، وبين تلك التي غالبا ما تبدو معتمدة بشكل كبير على حاجات أوباما، وطموحاته، و/ أو انحيازاته.
الأسوأ من ذلك، هو: أن المشكلة ربما تكون أكبر وأكثر مكراً. فقد خلقت الثورات الحديثة المعقدة في مجال الاتصالات العالمية الفورية، ووسائل الإعلام الاجتماعي، والتجارة ووسائل الحرب، عالَماً يذهب باطراد إلى عدم توفير الوقت ولا الحيز اللذين يحتاج إليهما القادة لتطوير وتطبيق خيارات استراتيجية متماسكة ومنسجمة.
وقد تم الإعراب مراراً وتكراراً عن هذا الواقع المقلق خلال يومين من المناقشات الأخيرة الخاصة التي جرت في معهد هوفر بين بعض القادة الذين وضعوا السياسات الخارجية وسياسات الأمن القومي الأكثر ديمومة للولايات المتحدة خلال نصف القرن الماضي. وهناك، قال وزير الخارجية السابق جورج شولتز حين افتتح تلك المناقشات: “إن العالم غارق في التغيير”.وعند نهاية المناقشات، بدا لي أن العالم قد انغمس مسبقاً وبالفعل في حمأة هذه التغييرات.
الآن، يؤكد أخذ المتطرفين الإسلاميين للرهائن الأميركيين وغيرهم في الجزائر في أعقاب التدخل الفرنسي في مالي مدى التشابك والتعقيد الذي أصبحت عليه مشكلاتنا “الخارجية”.
ولعل أفضل فرص مواجهة انحلال السياسة الخارجية تبدأ بالإعلان عن قيادة أميركية تنتهج وتسعى إلى خدمة هدف وطني واضح، والذي يقوم بتوحيد العمل الأميركي في الخارج. ولا شك أن السعي إلى تحرير ليبيا، ثم الوقوف جانباً أو انتهاج المراوغة عندما يكون حلفاء في الناتو مثل فرنسا وتركيا أهدافاً لأعمال عدائية، يلحق ضرراً بالغاً بتماسك الحلف الذي تمس الحاجة إليه.
وقد وضع دبلوماسي من غرب إفريقيا، والذي كنت قد ناقشت معه تدخل الولايات المتحدة، والمشاركة البريطانية والفرنسية في ليبيا قبل نحو عام، الأمر في عبارة مختصرة بالغة الوضوح: “لقد رأينا ما يمكنكم القيام به عسكريا في ليبيا. لكننا لسنا معجبين بخدمات ما بعد البيع”.
(واشنطن بوست) ترجمة: علاء الدين أبو زينة– الغد الاردنية.
*محرر مساهم في صحيفة الواشنطن بوست.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Our tangled foreign-policy problems