الخطابات أياً كان نوعها، دينية أو ثقافية أو سياسية أو اجتماعية تخلق أثراً في السلوك الإنساني. فالتخاطب البشري هو طريق التواصل الأكثر قوة في استدعاء الجسد والعقل والنفس. وفي حال التحول الإنساني إلى سلوك غير جيد أو عدواني سيئ، فإن من أساسيات الوعي فهم تشكلات وتطورات الخطاب الذي يقوم بتغذيته. وإذا كنا نعاني من سلوكيات العنف بكل درجاته وأساليبه فإن الخطابات التي ينتج منها هذا العنف لا تزال بحاجة إلى كشف أسسها ومطلقاتها، وليس فقط محاكمة أو نقد مضامينها.
نحن اليوم -محلياً وإقليمياً- نمر بمرحلة غير جيدة لثمرات الخطاب الديني والاجتماعي، إذ تعاني المنطقة من اختطافات فكرية تنحو باتجاه الغلو والتطرف، وهو ما يؤكد أن الخطاب الديني والاجتماعي كان هشاً وقابلاً للاختراق. وأيضاً لم يمر بما يكفي من الدراسة والتقويم وإعادة التفكير. بدليل أنه في إنتاجية مستمرة حتى مع وجود الأزمة، وإن تلون تشكيله وظهوره وخفائه تبعاً لقوة النقد والمحاكمة. ولا تتوقف المشكلة مع أصحاب الخطاب المنتج للعنف والقتل والتدمير. بل إن كُتّاب اليأس وأساتذته الذين يكتبون ويعلمون بنفسيات محبطة ويائسة وكارهة، هم داعمون للعنف إذ لا يمكن أن ينتج تعليمهم وكتاباتهم إلا الكراهية والانزعاج والتوتر، وهو ما يهيئ نفوساً لديها جاهزية الاستخدام للعداوة والبغضاء.
قد يكون من العلاج لحال الاختطاف الفكري للشباب محاولات تغيير أنماط الخطاب الديني من خلال توجيه مصادره وتكثيف الوعي فيها. لكنني أرى فيما يرى اليقظان أن الأجدى والأنفع هو التوجه بكثافة الوعي إلى الشباب والفتيات مباشرة. بمعنى أن ينطلق خطاب الحكمة من الشباب أنفسهم. لا أن يكتفي بدورهم كمستمعين. فالرهان في منطقتنا العربية على حكمة الشباب والفتيات، الذين حين نهمِّشهم تُستقطَب طاقتهم ضدنا. إن في الشباب والفتيات توقاً للفاعلية والنشاط الفكري والثقافي الذي يلائم طبيعة العصر وتقنياته، وحين يترك الشباب والفتيات يصارعون ذواتهم أمام طموحاتهم الثقافية والفكرية والتقنية ويتعايشون مع جوع التمويل لبناء ذواتهم وإخراج إبداعهم، فإنهم سيتلقفون أي دعم مادي يسد جوعهم ويفتح لهم الطريق نحو ممارسة الأنا في هذا الوجود. لذلك يجب أن تنطلق المبادرات الصادقة والعاجلة لتوفير متطلبات البيئة الشابة التي تتوافر في وطننا أكثر من غيره، ويجب ألا ننظر إليها كأزمة نتعامل معها بإدارة الأزمات.
إن علينا أن نتعامل معها بإدارة الثروة العظمى التي تقدر وجود الشباب والفتيات بنسبة عالية آخذة بالزيادة لتحقيق الطموحات والتطلعات. وبناء عليه فقد آن الأوان لخلق البيئات الشبابية، وتعديل وتشريع الأنظمة التي تدعم هذه البيئة. وعلى سبيل المثال ماذا لو أعدنا النظر في مسمى «الرئاسة العامة لرعاية الشباب» وتم إحداث وزارة خاصة للرياضة، ووزارة أخرى للشباب. ولا سيما أن المملكة قد أنجزت نظرياً «الاستراتيجية العامة للشباب» وهي تحمل في برامجها الشيء الكثير والجميل، وهو ما يستدعي وزارة غير تقليدية للشباب. وثمت مقترح آخر وهو الترخيص والدعم لجمعيات متعددة ومتنوعة للشباب والفتيات تحتضن أفكارهم وإبداعاتهم كجمعيات للرسم وللتصوير وللتطوير وللتفكير وللهوايات كلها. وهذا قدرنا.. وطن جميل وقيادة حكيمة وثروة شبابية هائلة. وإذا كان هذا هو المطلوب فعله، فإن هناك ما هو مطلوب تركه: وهو توقف الخطاب التقليدي. فالتقليديون لا يمكن لهم فهم طبيعة المرحلة التي تمر بها منطقتنا والتحديات التي نواجهها. لذلك فنحن بحاجة إلى علماء وعي يتجددون. وأمر آخر وهو التوقف عن توجيه اللوم والعتب على الشباب والفتيات في قوات الإعلام ووسائطه، ومن فوق منابر المساجد ومنصات التعليم. لقد أصبح هذا النوع من الخطاب خطاباً مكشوفاً يتستر به الصامتون والكسالى، والعاجزون عن فهم روح العصر ومتطلباته.
ومحصلة القول، أن الذين يتباطأون في فهم التحديات التي تمر بها منطقتنا يُسهمون بشكل مباشر في تأزيم الوعي. ولذلك ينبغي ألا تكون الجولة لهم فهذه مرحلة قد تجاوزتهم.
الحياة اللندنية