من غير المرجح أن تكون السنة المقبلة سنة سعيدة على الشرق الأوسط المعذب. وبالرغم من أن بعض الطغاة قد سقطوا وأن الكثيرين من العرب يطالبون الآن بحقوقهم، فليس ثمة مهرب من حقيقة أن كشف حساب السنتين الماضيتين يظل سلبياً إلى حد كبير. ليس هناك في أي بلد من بلدان الربيع العربي حتى الآن أي علامة مقنعة على السلام والمصالحة، أو الحكم الرشيد، أو تحقيق مستوى معيشة أفضل للناس العاديين، أو تعزيز للإحساس بالمواطنة، ناهيك عن تحقق الديمقراطية الحقيقية والأصيلة.
وقد عانت بعض البلدان أكثر من غيرها. ففي سورية، تتصاعد صرخات ودموع السكان الشهداء -عشرات الآلاف الذين قتلوا، ومئات الآلاف الذين جرحوا أو شوهوا، والنازحين الذين جُوِّعوا- وتثقل ضمير العالم. ومع ذلك، ليس ثمة نهاية لهذه العذابات حتى الآن. وعلى حد تعبير مبعوث الأمم المتحدة لخضر الإبراهيمي، فإن سورية تواجه خطر الانزلاق إلى الجحيم، إذا لم تكن قد أصبحت هناك بالفعل.
وليست الدول العربية المفردة هي الضحايا وحسب. فقد تعرض النظام العربي السياسي لضربات هائلة، وهو ما يزال يتخبط في حالة من الفوضى الكبيرة. فما الذي يعنيه هذا؟ إنه يعني أن قدرة الدول العربية على العمل معاً بشكل فعال قد تقلصت إلى حد كبير. وقد أصبحت هذه الدول تجد من الصعب تأكيد استقلالها عن القوى الأجنبية المفترسة أو الدفاع عن القضايا العربية على الساحة الدولية. وباختصار: أصبح للصوت العربي اليوم وزن قليل.
وقد حازت بعض البلدان العربية ثروات كبيرة، لكنه ليس من قبيل المبالغة القول بأن العرب ككل -الذين ينظر إليهم على أنهم كتلة من الناس متماثلي التفكير، الذين يتقاسمون لغة وتاريخاً ونظاماً من المعتقدات- ليسوا في حالة أفضل بكثير مما كانوا عليه قبل أكثر من ستين عاماً، عندما خسروا فلسطين العربية للصهاينة في العامين 1947-48، وعندما مُني العالم العربي بهزيمة شاملة على يد إسرائيل في العام 1967.
ولكن، لماذا أعتنق مثل هذه الآراء المتشائمة؟ دعونا ننظر في الأدلة.
• هناك اثنتان من الدول العربية الرئيسية، سورية والعراق -اللتان كان لكل منهما ذات مرة دور حاسم في الدفاع عن المصالح العربية- تواجهان الآن خطر التجزئة وتقطيع الأوصال، بل وحتى احتمال فقدان هويتهما الوطنية. إننا نشهد ما لا يقل عن إعادة رسم للخريطة التي كانت قد خلقت هذه الدول من الولايات العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى.
• ثمة لعنة أخرى يعاني منها العرب، هي اشتعال نار الكراهية بين السنة والشيعة. وقد أصبح هؤلاء الإخوة في الإسلام –الذين يعبدون نفس الإله ويجلون نفس النبي- يتصرفون اليوم مثل طرفين متعارضين لا يمكن التوفيق بينها. وليس هناك ما أضعف العرب أكثر من هذا الخلاف الأخوي، وليس هناك ما جلب بهجة أكبر لأعدائهم منه.
عندما قامت الولايات المتحدة في العام 2003 بحل الجيش العراقي وحظرت حزب البعث -وهما المؤسستان الرئيسيتان للدولة العراقية- فإنها أسقطت الدولة نفسها، مما أثار حرباً أهلية بين السنة والشيعة، والتي مات فيها مئات الآلاف وتشرد الملايين. وكانت اثنتان من نتائج الصراع كارثيتين على وجه الخصوص: أولاً، انتشار سم الصراع الطائفي في جميع أنحاء المنطقة العربية. ثانياً، فقدان العراق، وقد أصبح تحت قيادة شيعية، دوره التقليدي في العمل كمركز ثقل موازن لإيران. وقد عمل الاضطراب الناتج في ميزان القوى على إثارة المخاوف لدى بعض عرب الخليج من الهيمنة الإيرانية.
بالنسبة للمراقبين المستقلين، من أمثالي، كانت هذه المخاوف مضخمة ومبالغاً فيها إلى حد كبير، لكنها كانت لها النتيجة المؤسفة المتمثلة في جعل العديد من دول الخليج العربية تنظر إلى إيران كعدو بدلاً من النظر إليها كشريك -وبحيث لجأت إلى الولايات المتحدة طلباً للحماية. ولا شك أن الدعاية الأميركية والإسرائيلية ضد إيران قد لعبت دوراً كبيراً في ذلك.
• الآن، تعيش مصر، الزعيم التقليدي والدولة العربية الأكثر سكاناً على الإطلاق، في ظل شبح الإفلاس. ويبدو اقتصادها جاثياً على ركبتيه. وقد جفت فيها منابع السياحة والاستثمار الأجنبي. وسمح لمعدلات الخصوبة، التي كان ينبغي السيطرة عليها منذ الخمسينيات، بالتحليق. وعمل التضخم السكاني على حرمان السكان من أي أفق معقول لحياة أفضل. كما أفضى الاعتماد على المعونة الأميركية، وعلى المؤسسات التي تسيطر عليها أميركا، مثل صندوق النقد الدولي، إلى تقييد قدرة مصر على تبني سياسة خارجية مستقلة تعمل لخدمة المصلحة العربية إلى حد كبير.
• أصبحت القضية الفلسطينية، محور الكرامة والهوية العربية، خاسرة تماماً. وقد انقرض الحل القائم على دولتين عملياً. ويواجه العرب احتمال مواجهة هزيمة مدمرة، تستكمل هزيمة العام 1948. وقد فشلت الدول العربية الغنية في استخدام نفوذها في الولايات المتحدة وأوروبا للمطالبة بالعدالة للفلسطينيين. وهناك سبب آخر، هو الانقسام الفلسطيني. وسبب ثالث هو صعود القوميين المتعصبين الدينيين في إسرائيل، العازمين على إقامة إسرائيل كبرى، والتي إما سيساق فيها الفلسطينيون كأنهم عبيد أو أقنان إلى البانتوستانات المعزولة، أو أنه سيتم طردهم من الأرض جملة وتفصيلاً.
وقد تمكنت إسرائيل من سرقة الأرض الفلسطينية، ورفض السلام، ومنع أي تعبير عن إقامة دولة فلسطينية، ومن السيطرة على المنطقة عسكرياً وضرب جيرانها حيثما أرادت، لسبب واحد رئيسي: لقد تمتعت بدعم غير محدود من الولايات المتحدة. وعلى الرغم من انتخابه لولاية ثانية، ما يزال الرئيس باراك أوباما يبدو متردداً في مواجهة القوى الموالية لإسرائيل، والتي حققت نفوذاً كبيراً في الولايات المتحدة، وليس أقلها في الكونغرس الأميركي. غير أن المفارقة هي أن الكثير من العرب ما يزالون يتطلعون إلى الولايات المتحدة من أجل الحماية! وهذه حماقة. يجب على العرب أن يتحرروا من السلاسل الأميركية الفضفاضة التي تقيدهم، وأن يتعلموا كيفية الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم.
وإذن، أي قرارات في السنة الجديدة أجرؤ على أن أوصي بها الزعماء العرب؟
أولا، ابذلوا كل جهد ممكن لرأب الصدع المتسبب بالشلل بين السنة والشيعة، والذي يضعف العالم العربي بشكل خطير. ويمكن أن يكون التحرك المبكر في هذا الاتجاه هو الدعوة إلى مؤتمر جامع في مكة المكرمة للعلماء من جميع الطوائف والاتجاهات –وإبقائهم هناك حتى يتوصلوا إلى حل لخلافاتهم واختلافاتهم.
ثانياً، قوموا بحماية ما تبقى من سورية –ودورها المركزي في احتواء إسرائيل. أوقفوا أعمال القتل من خلال جلب النظام السوري ومعارضيه إلى طاولة المفاوضات، سواء كانوا يرغبون في ذلك أم لا. لا يوجد حل عسكري للأزمة. والطريقة الوحيدة لوضع حد للعربدة والتدمير هي فرض وقف إطلاق النار على الجانبين، ووقف إيصال الأموال والأسلحة للنظام والمتمردين على حد سواء، وعزل المتطرفين القتلة في كلا المعسكرين، وحشد الولايات المتحدة وروسيا، فضلاً عن الاتحاد الأوروبي ومصر وتركيا وإيران، لدعم عملية انتقال سياسي. ليست القضية الرئيسية ما إذا كان الرئيس السوري بشار الأسد سيبقى أو يعتزل، لكن الذي على المحك هو الحفاظ على دولة سورية موحدة، وهو ما يجب عمله من أجل حماية تراث سورية التاريخي الفريد، ومؤسسات الدولة، والأقليات القديمة، ودور سورية الإقليمي الحيوي في الدفاع عن الاستقلال العربي.
ثالثا، طالبوا بالعدالة للفلسطينيين، حتى لو كان ذلك يعني التهديد بالشقاق مع الولايات المتحدة وطرد القواعد الأميركية من الخليج.
رابعاً، ابدأوا حواراً استراتيجياً مع طهران. إن العداوة بين العرب والإيرانيين هي خطأ عميق. ولا يمكن سوى لشراكة عربية إيرانية -شراكة بين نظراء متساوين على أساس الثقة المتبادلة والمصالح المشتركة- أن تحمي منطقة الخليج الحيوية من أخطار الحرب وطموحات القوى الخارجية.
من المحتمل أن تكون إعادة التفكير الجذرية في السياسات والمواقف والتحالفات الحالية فقط هي الكفيلة بإنقاذ العالم العربي من الحفرة المظلمة التي يجد نفسه فيها. ولكن، أي زعيم عربي هو الذي سيجرؤ على الاضطلاع بمثل هذه المهمة؟
*كاتب بريطاني بارز حول الشرق الأوسط. وأحدث مؤلفاته كتاب “النضال من أجل الاستقلال العربي: رياض الصلح وصناع الشرق الأوسط الحديث” (مطبعة جامعة كامبريدج.
(ميدل إيست أونلاين) ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية.
نشر هذا المقال تحت عنوان:
Grim Prospects for the Middle East in 2013