رلى موفق – القدس العربي لن تدوم طويلاً الصدمة التي أحدثها فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بعدما بنى قادة العالم أجمعين حساباتهم على فوز محقق للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون في السباق الرئاسي، بما يُشكّل امتداداً لسياسة باراك أوباما في ولاية ثالثة تديرها كلينتون مع بعض التعديلات الشكلية أكثر مما هي جوهرية.
الآن قضي الأمر. فترامب أضحى «سيّد البيت الأبيض» لسنوات أربع على الأقل. وسيبدأ الحلفاء والخصوم في إعادة رسم ترتيب خطواتهم والتحضير لكيفية التعامل معه.
والسؤال: هل يكون «ترامب الرئيس» غير «ترامب المرشح»؟ القاعدة العامة تقول أن الحكم على الرئيس، استناداً إلى البرنامج الذي يُطلقه خلال حملته الانتخابية، ليس معياراً دقيقاً، ذلك أنه غالباً ما يستخدم المرشح الشعارات الرنانة والعاطفية التي تدغدغ مشاعر الناخب، بحيث يمكنه التغلب من خلالها على منافسه. ولكنه حين يصل إلى سدّة الرئاسة يرمي بها جانباً ويبدأ العمل بواقعية. وثمة مَن يستشهد بتاريخ الحملات الرئاسية الأمريكية حيث كان كل مرشح، سواء انتمى إلى الحزب الجمهوري أو الديمقراطي، يُطلق وعوداً للناخبين من أصل يهودي بأنه سيعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، لكن سرعان ما كانت هذه الوعود تتبخر حين يُصبح في البيت الأبيض.
طروحات ترامب، سواء في ما خص الداخل الأمريكي أو السياسة الخارجية، أحدثت جدلاً واسعاً وقلقاً ومخاوف من هذا الكمّ من «الرعونة» و»اللادبلوماسية» في الكلام والتعبير، رغم أن كتابه «فن الاتفاق» كان الأكثر مبيعاً في الأسواق الأمريكية.
لا شك أن أحداً من المحللين والأكاديميين والخبراء غير قادر على الجزم في كيفية تعامل ترامب مع الملفات الشائكة في المنطقة، وماذا ستكون عليه السياسة الخارجية فعلاً؟ المؤشر العملي الأول الذي يمكن البناء عليه يكمن في رصد فريق العمل الذي سيختاره الرئيس خلال المرحلة الانتقالية في المراكز الأساسية والحسّاسة، سواء في وزارتي الخارجية والدفاع وفي جهاز الاستخبارات والأمن القوميّ. فسيرة هؤلاء وماضيهم وخبراتهم من شأنها أن تُسهم في تحديد الاتجاه الذي سيسلكه الرئيس المُنتخَب حيال الملفات الخارجية.
ما يمكن البناء عليه راهناً، بانتظار تبلور صورة الإدارة الجديدة، هي الخطوط العريضة التي رسمها ترامب خلال حملته الانتخابية انطلاقاً من الملفات والدراسات والخطط التي أعدّها مستشاروه. تلك الدراسات ستشكّل أساساً لكنها في نهاية المطاف ستكون موضع مراجعة وتعديل من قبل الطاقم الجديد الذي سيُمسك بزمام الأمور في الإدارة. على أن وجود كونغرس جمهوري بجناحيه سيُسهم في التخفيف من الضغوط على الرئيس وفريقه تجاه السياسة التي سيرسمها ويطلق يده. فنحن اليوم أمام عهد جمهوري بامتياز على مختلف مؤسسات الحُكم، وهو أمر نادر الحدوث في تاريخ الولايات المتحدة.
ولعل موقفه من الإسلام شكّل العنوان الأبرز والأكثر استفزازاً في العالم العربي والإسلامي، في وقت يرتفع فيه منسوب العداء ضد المسلمين في الغرب، وتزداد الهوّة بين الحضارات والشعوب من منطلقات دينية وعرقية ومذهبية. هي إشكالية من دون شك، لكن مقاربة الموضوع، وفق طوم حرب مدير التحالف الأمريكي – الشرق أوسطي لدعم ترامب، الأمريكي من أصل لبناني، والذي يَعتبر أن دور المشرقيين هو إعطاء الصورة الحقيقية لهذا الشرق، وتكمن في الإقرار بأن هناك مشكلة ليس مع الإسلام كديانة، وإنما مع «الجهاديين» الذين أسهمت مناهج دراستهم وتلقينهم الديني في جعلهم متطرفين. هذا ليس موقفاً محصوراً بترامب بل هو موقف يُعبّر عنه قادة وشعوب الدول العربية والإسلامية كما الغرب. لم يقل ترامب أنه ضد الإسلام، لكنه كان حازماً أنه سيتخذ إجراءات مشددة من أجل حماية بلاده من خطر «الجهاديين». المعضلة في تهمة الإرهاب أنها أضحت تلصق بالإسلام، ما يجعل أي مقاربة للموضوع تندرج في خانة العنصرية، لكن المطلوب هو معالجة متكاملة سياسية واجتماعية ودينية من أجل الخروج من الصورة النمطيّة الراهنة.
وإذا كان من المُبكر الحكم على المسار الذي ستسلكه الإدارة الجديدة قبل أن تستلم مهامها في كانون الثاني/يناير، فإن مستشار ترامب للشؤون الخارجية، الأمريكي من أصل لبناني، وليد فارس كان أفضل مَن عبّر خلال إطلالاته الإعلامية، أثناء الحملة وبعد فوز مرشحه، عن العناوين العريضة للسياسة الخارجية، ولا سيما حيال الشرق الأوسط والحلفاء التقليديين، والتي يمكن من خلالها رسم ملامح سياسة ترامب عربياً وشرق أوسطياً.
المسلّمة الأولى التي سينطلق منها الرئيس هي مصلحة أمريكا أولاً. وهذا شأن الدول التي لا تبني سياساتها على العواطف. الأكيد أن الشرق الأوسط منطقة حيوية للأمريكيين. والأزمات تستعر من العراق إلى سوريا واليمن وليبيا، والخطر الأكبر الذي أضحى أولوية اليوم، هو خطر الإرهاب. إرهاب «تنظيم الدولة الإسلامية» الذي لا ينحصر في المناطق التي استوطن فيها التنظيم، بل تخطاها ليتحوّل مجدداً إرهاباً عابراً للحدود.
فمحاربة «تنظيم الدولة الإسلامية» والتنظيمات المرتبطة بـ «القاعدة» هي في رأس الأولويات. في العراق، قد يكون هناك تغيير أساسي، لجهة مزيد من الانخراط. سياسة زج الجنود في أرض المعركة على غرار ما حصل في عهد جورج بوش الابن انتهى زمنها. «القيادة من الخلف»، وهي السياسة التي طبعت عهد باراك أوباما في خوض الحروب، ستبقى هي الأساس. الإمداد بالمستشارين والخبرات والخطط العسكرية والغطاء الجوي، عبر التحالف الدولي أو من خلال أطر أخرى هو ما سنشهده، سواء في العراق حيث يُطبّق راهناً أو في سوريا، حيث السياسة المعلنة عن كيفية التعامل مع الأزمة هناك تنطلق من تأمين الدعم لقوات عربية معتدلة ستنزل على الأرض لمحاربة «داعش» والتنظيمات المتطرفة من دون أن يتم تجيير هذا الانتصار للنظام السوري. ويبدو الرهان هنا على قوات مصرية وأردنية بشكل رئيسي إضافة إلى «دور خليجي ما» غير واضح المعالم بعد. فتوقعات المحور الإيراني وحلفائه من أن محاربة «داعش» ستدفع لجعل النظام شريكاً بما يقضي على المعارضة السورية لا تنطبق على ما يُحضر من خطط مستقبلية للإدارة الأمريكية التي ستتبنى منهجية التفاوض في حل النزاعات، بعد أن تؤمن توازناً على الأرض، ذلك أن العودة إلى ما كانت عليه سوريا قبل انطلاق الثورة لم يعد ممكناً، فيما سياسة حماية الأقليات، والأكراد تحديداً حاضرة في قاموس الإدارة الجديدة أيضاً.
والملفات الشائكة لا تقف عند هذا الحد. النزاع العربي- الإسرائيلي غائب عن المشهد، ولبنان ليس في الأولويات وإنْ كان الاهتمام سيبقى على دعم قواته المسلحة وعزله عن الحرائق المحيطة به، فيما الأمر الأكيد أن ثمة توجهاً لاعادة أحتواء مصر وتعزيز التعاون معها والرهان عليها كحليف في المنطقة، كما الرهان على التحالف الوثيق مع الأردن. وسيتم العمل على إعادة بناء الثقة مع الحلفاء العرب التقليديين، أي دول الخليج وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، التي ستواجه تحدياً كبيراً في كيفية التصدي للصورة النمطية حيالها لجهة دعمها وتغذيتها التطرف السني، والمساهمة تربوياً وتوعوياً ومجتمعياً في معالجة آفة التطرف التي أضحت سمة مجتمعات إسلامية وعربية كبيرة، ذلك أن الحلول الأمنية وحدها لا تشكل الحل الناجع.
أما الملف الأهم عربياً وخليجياً والمتمثل بالخطر الإيراني، فإن ما أعلنه ترامب حيال إيران سواء باعتباره الاتفاق النووي الإيراني لا يخدم مصلحة أمريكا ولا حلفائها في المنطقة أو في رفضه للدور العسكري الإيراني في الدول المجاورة ومحاولة مد نفوذها إليها، ربما يشكل نقطة الضوء في ظلمة المنطقة وبارقة أمل لبداية أمريكية جديدة تعيد إصلاح ما فعله أسياد «البيت الأبيض» في الشرق الأوسط، إما نتيجة أخطاء سياساتهم أو إنفاذاً لمخططاتهم.
الشرق الأوسط في انتظار تعيين «رجالات» الإدارة الجديدة هل يفاجئ ترامب العرب؟

Leave a comment