يرفع إسلاميّون مفترضون شعارات كبرى، من قبيل الدولة الإسلامية أو الخلافة أو الحكم الإسلامي أو الحكم بما أنزل الله… ولا شك في أن هذه شعارات شرعية ومطلوبة، لا اختراعات أو مبالغات، من حيث المبدأ، لكن التساؤل هو حول مضمون الشعار وتفاصيله، والأسلوب والإمكانات والظروف المحيطة والمتغيرات وما إلى ذلك.
إن من يرفعون الشعارات الإسلامية الكبرى اليوم عاجزون عن تطبيق البدايات البديهية لأي عمل ناجح، فضلاً عن أيّ عمل إسلامي ناجح. يشبهون، بذلك، الطالب الفاشل الذي يتحدّث عن آماله في أن يصبح أستاذاً في الجامعة، وهو لم يتجاوز بنجاح الشهادة الابتدائية.
الأمر ليس سهلاً، وليس مجرد تمنٍّ أو حلم نحلم به مساءً، لنستيقظ صباحا فنجده جاهزاً، أو أنه بمجرد القضاء على أعداء هذا الشعار بالقتل أو النفي أو الإلغاء، تصبح الطريق ممهدة لإقامة الحكم الإسلامي المنشود. القضية اكبر من ذلك بكثير، ولا بد من تفصيل:
أولاً، إقرار المبدأ: نعم، الإسلام يطلب منا إقامة حكم الإسلام بين المسلمين، والجدل في هذا الموضوع عقيم. ولا يجد أعداء هذا الشعار، من العلمانيين أو المتأثرين بالمستشرقين، سندا لهم من مفكري وعلماء الإسلام إلا كاتبا واحدا هو الشيخ الأزهري علي عبد الرازق، الذي كتب مطلع القرن العشرين كتاباً يتيماً لم يكتب غيره، رأى فيه أن الحكم من شؤون الدنيا لا من شؤون الدين، فيما اجمع علماء الدين والمفكرون الإسلاميون في التاريخ والحاضر على أن إسلام المرء أو إسلام المجتمع لا يكتمل إلا بتحكيم شريعة الله، والآيات في ذلك كثيرة. إذاً، القضية ليست محل نقاش، وحجة غير الإسلاميين في ذلك ضعيفة، لا تستطيع مواجهة حجج الإسلاميين المستقاة من النصوص، ومن التجربة التاريخية الواسعة، لكن هذا يحتاج إلى تفصيل كبير.
ثانيا، نعم، نحن مبشرون بعودة الخلافة الراشدة بعد الملك العضوض والملك الجبري وانتشار الظلم والجور في كل مكان، لكن لا أحد يستطيع أن يحدد أين ومتى ومن؟ هل بمجيء المهدي أم قبله؟ وأي مهدي نقصد؟ الرواية السنية بذلك أم الشيعية أم غيرهما؟ هل بعطاء رباني دون جهد بشري كحكم عمر بن عبد العزيز الراشد، الذي جاء بعد حوالى ستين عاما من انتهاء الخلافة الراشدة الأولى ودون جهد من احد؟ أم بجهد بشري وبجهاد؟ هل قبل زوال إسرائيل أم بعده؟ هل هو نتيجة لزوال إسرائيل أم سبب… الخ؟ هذه، وغيرها، أسئلة لا يملك احد الجواب عنها، ويمكن أن تكون مثار خلاف لا ينتهي، مما يجعل الهدف البعيد الذي هو إقامة حكم إسلامي موضع اختلاف اجتهادي بين الذين يتبنونه.
ثالثاً، ما بين التاريخ والحاضر فارق كبير. لا شك أن صراعنا مع الفرنجة الصليبيين ثم مع التتار، مثلا، ثم مع كثير من المعتدين والمستعمرين كان يخضع لظروف مختلفة. كانت القوى متكافئة، فهم يقاتلون بالسيف ونحن ندافع بالسيف، بل كنا أكثر تقدما كما يذكر الكاتب اللبناني المبدع أمين معلوف، عضو الأكاديمية الفرنسية، في أول كتاب له (الحروب الصليبية كما يراها العرب)، وهو تعليق على نصوص استقاها من المؤرخ الكبير ابن الأثير اثبت فيه تقدم العرب والمسلمين في الطب وغيره على الفرنجة… وكان صلاح الدين الأيوبي يحتاج فقط في ذلك الوقت إلى أن يجمع الفرسان من الموصل إلى دمشق إلى القاهرة تحت لوائه ليصبح المقاتلون بسيوفهم قادرين على مواجهة الفرنجة بسيوفهم أيضا، فكانت حطين وكان الانتصار.
أما اليوم، فالفارق التقني بيننا وبين الغرب كبير جدا، يحتاج الإنسان فيه إلى أن يفكر في حالنا وتخلفنا العلمي والصناعي قبل أن نصبح رغما عنا أتباعا لمن يعطينا السلاح ويزودنا بالاختراعات الحديثة الضرورية للنصر، فضلا عن وجود فئة تدعي الإسلام تحرم أو تستخف بالعلوم الحديثة، وترى أن إقامة الدولة الإسلامية تحتاج فقط إلى العلوم الشرعية، وان الله سخّر لنا الغرب ليصنّع، ونحن لنستعمل اختراعاته!
رابعاً، هناك شروط أكثر من بديهية، على رأسها وحدة الأمة، فان كانت الأمة متفرقة متنازعة لا يتفق فيها فريق مع الآخر على كيفية الوضوء وكيفية الوقوف بالصلاة، وليس فيها فقهاء قادرون على حسم نزاعات بسيطة، فكيف يمكن الحديث عن الخطوة التالية؟ وهل هناك جهة قادرة على فرض رأيها الفقهي على الآخرين حتى ولو بالقوة؟ بالتأكيد لا.
خامساً، الرسالة تقرأ من العنوان، فان كان من يتحدث عن الخلافة الراشدة يجهل مبادئ الإسلام، ويخالف أبسط تعاليمه، فكيف له أن يصل إلى القمة الأعلى دون الارتفاع بالتدرج المنطقي والسليم. لقد رأينا وسمعنا ممن يرفع هذه الشعارات الكبرى جهلا بأبسط المبادئ، ومخالفة لبديهيات الإسلام، فكيف السبيل إلى الوصول إلى الأعلى؟ لا بد إذن من خطوات كثيرة واجبة قبل رفع الشعار، وأهمها أن يتعلم رافعو الشعار أنفسهم الإسلام (!).
سادساً: الاجتزاء والانتقاء: لا يجوز انتقاء حكم شرعي وترك أجزاء، فالعدل وإنصاف المظلومين وإطعام الفقراء ومواجهة الفساد في المجتمع وخدمة الناس في حاجاتهم اليومية، التي لا تؤمنها الحكومات الظالمة، والعدالة في توزيع الثروة، وثروة البترول على رأسها، كل ذلك واجبات شرعية لا تقل أهمية عن تطبيق الحدود الشرعية، قبل تأمين العدالة والحاجات البشرية الرئيسية للناس، من المسكن إلى الطبابة إلى التعليم…الخ، وذلك جزء لا يتجزأ من القاعدة الشرعية المستقاة من الحديث النبوي «ادرأوا الحدود بالشبهات»…
هناك من يصورون للناس أن الإسلام هو فقط رجم الزاني وقطع يد السارق وقتل المرتد وكفى… وهذا تشويه خطير يمارسه إسلاميون مزعومون ينبغي وضعهم عند حدهم وعدم إبرازهم في وسائل الإعلام كممثلين للفقه الإسلامي والشريعة أو كعلماء ودعاة.
سابعاً: انتقاء سوريا، مثلاً، لإقامة حكم إسلامي مفترض وترك الأماكن الأَولى كالسعودية أو مصر (الأزهر) أو غيرهما قضية تحتاج إلى تفكير. وما أظن أن اتخاذ قرار بهذه الأهمية يمكن أن تتفرد به جهة واحدة، ولا يتصورنّ عاقل بعد هذه السنوات الثلاث أن قرار «الثورة» على النظام في سوريا، واستقدام المقاتلين، كان قرارا «إسلامياً»، بل انه قرار اتخذته جهات لا تطبق الإسلام في شيء، وبعضها عدو للإسلام ولفكرة الحكم الإسلامي والعدالة والشورى وتوزيع الثروة… الخ.
اليوم بدأت السعودية تتخلى عن المقاتلين الذين أخرجتهم من السجون شرط الذهاب لـ «الجهاد» في سوريا، وللأسف فإن وقف السعودية لدعم الإرهاب، يأتي نتيجة للضغوط الأميركية، لا نتيجة فتوى من العلماء أو موقف شعبي مفترض أو غير ذلك، كيف تقوم دولة إسلامية، والداعم الرئيسي لها هو السعودية، وخلفها أميركا وبعض أوروبا وربما إسرائيل!؟ كيف تقوم دولة إسلامية بدعم سعودي أميركي.
ثامناً: نظرة بعض الإسلاميين إلى التاريخ الإسلامي نظرة خيالية، لا تمت إلى الواقع بصلة، فالبعض يظن أن الإسلام كان حاكما طوال التاريخ الإسلامي وصولا إلى سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، ثم إعلان انهاء الخلافة بعد ذلك بحوالى عشر سنوات، لكننا لا ننظر إلى حقائق الأمور فنرى الحسنات والسيئات ثم نرى كم كان الكثير من «الخلفاء» إسلاميين فعلا. فقد كثر القتل وسفك الدماء على نحو لا يمكن ان يكون القاتل فيه إسلاميا بالمعنى الذي يقصده الإسلاميون المعاصرون، فأين الإسلام في إطلاق يد الحجاج بن يوسف في عهد عبد الملك بن مروان في القرن الأول من قرون الإسلام مثلا؟… ولماذا يُعدَم سعيد بن جبير، وهل حُكّمت الشريعة في ذلك؟ توارث الحكم هل هو خلافة أم ملك عضوض، أليس بدعة؟ ولماذا هذه البدعة لا تدخل النار كبقية البدع، وان كانت لا تدخل النار لأنها ليست بدعة في الدين، فمعنى ذلك أننا وافقنا على أن الحكم شأن من شؤون الدنيا، فلماذا نختصم مع العلمانيين؟ ولنكتف بالصلاة والعبادة ونترك شؤون الدنيا لأهلها. وإذا تركنا التاريخ الإسلامي، وما فيه لاتساع الموضوع، وانتقينا الخلافة أو السلطنة العثمانية، التي يرى بعض «الإسلاميين» أن الإعلان عن إلغائها يوما مأساويّ في التاريخ، وكأن الإعلان عن إلغائها بعد عشر سنوات عمليا من نهايتها الحقيقية كان قرارا بإنهاء الإسلام.
والحق يقال إن الخلافة العثمانية بقي فيها من الحكم الإسلامي شيء واحد، والله اعلم، هذا الشيء هو أنها رمز لوحدة أراضي المسلمين وخيمة واسعة، سواء كانت ممزقة أم لا، تجتمع تحت هذه الخيمة أكثر بلاد المسلمين… أما على صعيد التشريع والقوانين، فقد أدخلت تشريعات كثيرة من الغرب منذ أيام سليمان القانوني، ثم إن تحالفات وحروب السلطنة العثمانية لم تكن خاضعة لمقاييس إسلامية بالمعنى الفقهي والتشريعي، بل كانت خاضعة للظروف ولموازين القوى، فهل كان قرار إنشاء القائمقاميتين في لبنان إسلاميا؟ هل كان قرار إنشاء المتصرفية إسلاميا؟ وماذا عن انفصال مصر عن الخلافة العثمانية؟ وماذا عن المجازر المرتكبة بحق الأرمن، بغض النظر عن العدد الحقيقي لتلك المجازر، بالتأكيد كل هذا لم يكن قراراً إسلامياً.
الأخبار اللبنانية