نابلس– الحياة الجديدة– بشار دراغمة- تتغير أمنيات فتية فلسطين، من رسم تفاصيل الحياة ومستقبلها، إلى ظروف الموت وحرارته وبرده، موقع القبر، الزائرين المتعاقبين للمقبرة، السابقين واللاحقين من الشهداء، حتى وصل الفتى إلى بناء لغة جديدة في “مستقبل الموت”.
الفتى غيث رفيق يامين الذي ارتقى فجر أمس برصاص الاحتلال في مدينة نابلس، أيقن في ذاته أنه لم يعد بعد الـ 16 ربيعا بقية من العمر، وراح يبحث عن تفاصيل موته كيف يكون في زمن احتلال يوزع الموت مع كل صلاة تلمودية يؤديها مستوطنون اقتحموا المكان وزرعوا فيهم شرهم ورصاصهم.
وترك غيث وصيته على منصات التواصل الاجتماعي ومع رفاقه، أخبرهم فيها أنه لا يطيق البرد وأوصاهم ألا يضعوا الجثمان في الثلاجة حينما يحين الأجل، تمنى شهيد الفجر على المشيعين أن ينتقوا مكان اختيار القبر وأن يكون بين أقرانه من الأطفال وفي يقينه أنهم سيكونون معا أحياء عند ربهم يرزقون.
لا يطيق غيث الوحدة، داعيا أصدقاءه وذويه إلى زيارته دوما والجلوس عند قبره، مؤكدا لكل الزائرين انه سيكون حاضرا دوما بكل روح صاغية.
غيث الذي حرق قلوب محبيه بكلماته، تأمل ألا يبكيه أحد، فلا يريد أن تسيل الدموع بسببه ولا يريد أن يُسكن قهرا في القلوب، مؤكدا للمحبين أن غياب الجسد تغادر معه الروح وستظل حاضرة عبر حساباته في منصات التواصل الاجتماعي التي أوصى ذويه أن تظل فعالة لتبقى سيرته حاضرة.
إسوارة غيث التي أحبها كثيرا كانت حاضرة في وصيته، أخبر المحبين بمكانها وقال لهم إنها تنتظرهم تحت الوسادة، مودعا إياها أمانة وجب الحفاظ عليها.
غيث الذي لا يهمه تجميل الكلمات كتب وصيته قبل استشهاده على حسابه الشخصي على منصات التواصل الاجتماعي، خطها بلغته العامية مدركا أنها ستكون قريبة من القلب وقال فيها: “لا تحطوني بثلاجة لأنو ما بحب البرد، وادفنوني بمكان في أطفال عشان ما أضل لحالي، وحساباتي خليهم مفتوحين وكل فترة نزلوا ما بدي حد ينساني، تعالوا كل يوم زوروني واحكوا معي بسمعكم، وما تبكوا لأنو ما بحب أزعل حدا مني أو حد يبكي بسببي، اسوارتي الي بحبها هي تحت مخدتي، عادي إذا وزعتوا قرآن عن روحي واكتبوا اسمي في أول صفحة”.
يعتذر أصدقاء غيث من رفيق دربهم، فلم يفلحوا في تنفيذ كل وصيته، والعيون التي حبست دموع في مآقيها لم تصمد طويلا حتى انفجرت بكل ما حبست، وصرخات القهر زلزلت مدينة نابلس بحناجر الحاضرين أمام مشفى رفيديا، حيث نقل غيث إلى هناك بعد إصابته ومحاولة إسعافه، إلا أن لحظات الفجر شهدت إعلان استشهاده بفعل الرصاصة التي استقرت في رأس غيث.
على مقاعد متلاصقة داخل ساحات مشفى رفيديا جلس العشرات من أصدقاء غيث وزملائه على مقاعد الدراسة، كانوا يتحدثون عن قهره وإحساسه بقرب الموت، يروون لبعضهم تأثر غيث باستشهاد ثلاثة شبان من نابلس في عملية اغتيال نفذتها قوات الاحتلال في شهر شباط /فبراير الماضي، وكان يخبر أصدقاءه أنه سيلحق بهم.
يترحم أصدقاء غيث على رفيق دربهم آملين أن تكون الثلاجة التي اضطر الأطباء لوضع الجثمان فيها، حتى يحين موعد التشييع، سلاما لا برد فيها.