عدتُ مرة أخرى إلى إسرائيل على متن رحلة جوية وصلت قبل الفجر، وقررت أن أركب الحافلة المكوكية الصغيرة في رحلتي إلى القدس بدلاً من ترف ركوب سيارة أجرة. وفي تلك الساعة المبكرة، استغرق امتلاء الحافلة بالركاب بعض الوقت. ووقفت على الرصيف، سعيداً بأنني لم أعد أتنفس هواء مقصورة الطائرة. وعندما ظهر بعض السياح الألمان ليحتلوا المقاعد الأخيرة فقط لاحظت الكتابة على جانب الحافلة، والتي تعلن أنها تستخدم “الطريق 443.” ولأني لم أحب احتمال أن أجعل الركاب الآخرين ينتظرون ظهور مسافر آخر، صعدت إلى متن الحافلة، وقضيت رحلة الركوب إلى البيت وأنا أشعر بمزيد من التعاسة بسبب هذا الطريق بالتحديد.
بوصفي صحفياً يغطي موضوع المستوطنات، لم أستطع تجنب المرور بطرق الضفة الغربية. وفي الحقيقة، لا يستطيع أي من سكان القدس أن يتجنب سلوك الطريق السريع الذي يشق مساره عبر الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ الطريق الرئيسي الممتد من تل أبيب إلى القدس، والذي يعبر مساره الخط الأخضر لفترة وجيزة. لكن لدي نفور مخصوص من الطريق 443، ذلك المسار الثانوي، الطريق السريع الذي تم إنشاؤه على طبقات متراكمة من خداع الدولة. وكان آخر شيء فعلته قبل عطلتي هو النبش في آخر الطبقات السرية لذلك الخداع.
لأولئك الذين لا يعرفون الجغرافيا المحلية، يمتد الطريق 443 من مدينة اللد إلى تلال الضفة الغربية، وصولاً إلى الطرف الشمالي للقدس. وقد بنته إسرائيل في الثمانينيات، في جزء منه، ليتمدد على طول طريق أقدم كان يصل القرى الفلسطينية بمدينة رام الله.
والطرق السريعة تستهلك مساحات وفيرة من الأرض، وقد صادر الجيش الإسرائيلي الأرض لهذا الطريق من الفلسطينيين المحليين. بعضهم قدموا التماسات إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، محتجين بأن الطريق يخدم حاجات النقل الإسرائيلية، وأن القانون الدولي لا يسمح لقوة احتلال بالاستيلاء على أملاك السكان المحليين من أجل خدمة أغراضها الخاصة. وكانت إجابة الدولة هي أن المشروع كان يقصد فعلاً إلى منح السكان الفلسطينيين الذين يزدادون عدداً طريقاً سريعاً عصرياً يخدمهم. وقبلت المحكمة بادعاءات الدولة، وأخذتها بقيمتها الظاهرية.
عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، قتل مسلحون فلسطينيون عدة إسرائيليين على ذلك الطريق. ومن الناحية النظرية، كان باستطاعة الجيش أن يحمي الإسرائيليين الآخرين بأن يأمرهم بعدم سلوك الطريق 443، تماماً كما حظر عليهم دخول المدن الفلسطينية. وبدلاً من ذلك، قام جيش الدفاع الإسرائيلي بحظر استخدام الطريق على الفلسطينيين، وهو الطريق الذي يُفترض أنه بُني لأجلهم. وفي العام 2009، بعد معركة قانونية أخرى، أمرت المحكمة الإسرائيلية العليا جيش الدفاع الإسرائيلي بأن يسمح للفلسطينيين بالعودة إلى استخدام هذا الطريق السريع. واستجاب الجيش ببعض الترتيبات الأمنية التي لم تكن تصنع أكثر من إحداث تحسن هامشي وحسب.
حتى نكون منصفين للقضاة في القضية الأصلية، فإنهم لم يطلعوا أبداً على الأوراق التي تقول القصة الحقيقية لهذا الطريق. وكبداية، لم يروا النسخة السرية الأصلية للخطة التي وضعها سياسي حزب العمل ييغال آلون، والتي كُتبت مباشرة بعد حرب الأيام الستة، لتتحدث عن ضم واستيطان قطع من الضفة الغربية. ومن بين جملة من الأمور، قال آلون في تلك الخطة إن إسرائيل ينبغي أن توسع ممراً من الأرض يربط القدس بالساحل، بحيث يشمل الطريق القديم إلى رام الله.
كانت خطة آلون هي التي أرشدت إلى حد كبير جهود الاستيطان التي بذلتها حكومات حزب العمل على امتداد العقد التالي. وتسجل الأوراق التي نُزعت عنها صفة السرية من ربيع العام 1976، والتي عثرتُ عليها في ملفات شيمون بيرس، وزير الدفاع آنذاك حول الاستيطان، تسجل القرار الحاسم الذي اتخذته لجنة وزارية ببناء ما أصبح الطريق 443. وقد خدم هذا الطريق الغايات ذاتها التي تخدمها المستوطنات: حيث عبر عن استراتيجية آلون الخاصة بالأراضي، وجسد إصراره على وجوب قيام إسرائيل بـ”خلق حقائق” من خلال البناء على الأراضي التي تنوي الاحتفاظ بها. وفي حقيقة الأمر، سوف يكون الطريق بمثابة مستوطنة طويلة ضيقة.
في الشهر الماضي، تسنت لي فرصة النظر في ملفات سرية أخرى تم الإفراج عنها قريباً، والتي تتصل بذلك الطريق في ملفات دولة إسرائيل. وتقول الملفات أنه بعد أن استولى حزب الليكود على السلطة في العام 1977، تبنى الحزب استراتيجية جديدة لتقطيع أوصال الضفة الغربية عن طريق إنشاء العديد من الشرائط التي تمتد من الغرب إلى الشرق، والمكونة من المستوطنات الإسرائيلية. وكان الطريق مناسباً تماماً لهذه الاستراتيجية، ويظهر دائماً في شكل خط أحمر فاقع في خرائط اقتراحات الاستيطان الليكودية. وهنا وهناك أثناء عملية التخطيط، يجري ذكر المجتمعات الفلسطينية التي تقيم على جانبي الطريق -بوصفها عقبة محتملة. وهناك رسالة تعود إلى العام 1979، مرسلة من الجيش إلى مسؤول حكومي، تحذر بأن على مخططي الطريق السريع أن يسرعوا في استكمال الطريق على وجه الخصوص، وتحصيل الموافقة لإنشائه. وبخلاف ذلك، فإن الفلسطينيين ربما يبنون بيوتاً حيث ينبغي أن يمر الطريق، جاعلين من قيام معارك قانونية حول الاستيلاء على الأرض أكثر احتمالاً. في الحقيقة، لم يتم إنشاء الطريق 443 من أجل الفلسطينيين المحليين؛ لقد بني على الرغم منهم.
فكرت في هذا وأنا أركب الحافلة صاعداً التل، وبكيف أصبح الطريق والاحتلال نفسه أجزاء لا تكاد تُلحظ تقريباً من الحياة الإسرائيلية. تقريباً -ليس تماماً- بينما كنا ندخل القدس، ذكر مسافر يجلس خلفي لزوجته بسرعة أنهما دخلا إسرائيل مرتين في هذا اليوم نفسه: مرة في المطار، ومرة أخرى هنا.
“ضوء الشمس هو… أفضل المطهرات”، كما قال لويس برانديس في قولته المشهورة. ولا شك أن المسؤولية الأساسية في تسليط الضوء على عمليات الخداع التي تمارسها حكومتي تقع على كاهل مواطنيها أنفسهم. لكن أصدقاء إسرائيل يمكن أن يساعدوا إلى حد كبير في هذه الحالة. هذا، على سبيل المثال، هو السبب في أن العقوبات الأخيرة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على المستوطنات تظل مهمة أيضاً للحوار الإسرائيلي المحلي: إنها تقيم التمييز بإصرار بين إسرائيل وبين الأراضي المحتلة. ذلك أيضاً هو الفارق بين الحياة الطبيعية، وبين ركوب الحافلة إلى البيت على الطريق 443.
غيرشوم غورينبرغ – (ذا ديلي بيست) –ترجمة: علاء الدين أبو زينة- الغد الاردنية