واشنطن- عودة أميركا المترددة إلى ساحات المعارك في العراق، والتي تذكر بالعمل الأميركي غير الناجز هناك، تشكل أيضاً تذكيراً مريعاً بأن العالم العربي ما يزال يحاول التعامل مع تداعيات العمل غير الناجز للإمبراطورية العثمانية، حتى بعد قرن كامل من انهيارها.
بعد الحرب العالمية الأولى، لم يُسمح لعرب المنطقة بإرساء أساس سليم يمكن أن يبنوا عليه دولاً مستقرة وعاملة. وفي العقود الأقرب بعد ذلك، فشل العرب إلى حد كبير في محاولة القيام بذلك من تلقاء أنفسهم.
هذه الحقائق المؤلمة تبدو واضحة أكثر ما يكون في العراق الآن؛ حيث ما تزال الطائفية تنقض كل الجهود الأميركية السابقة التي حاولت زراعة الديمقراطية التعددية قسراً وإنباتها في تربة أصبحت قاحلة بفعل المظالم وعدم المساواة والهويات الطائفية والعنف القائمة منذ وقت طويل.
إن العالم العربي الماثل اليوم هو نتاج الخرائط التي كان قد رسمها الدبلوماسي البريطاني السير مارك سايكس ونظيره الفرنسي فرنسوا بيكو في العام 1916، والتي كرستها معاهدة فرساي في العام 1919. وأعقب ذلك استمرار الحكم الأوربي للدول العربية التي كانت مستقلة اسمياً فقط؛ وقد ترك ذلك هذه الدول وهي تكافح من أجل تحقيق الشرعية منذ ذلك الحين. وعندما غادر الأوروبيون، جاء في أعقابهم الحكام المستبدون والدكتاتوريون الذين ظلوا يتحدثون عن القومية، لكنهم فشلوا في إقناع شعوبهم نفسها بأنهم يشكلون شركاء مهمين في بلدانهم.
حدث ذلك لأن الحدود التعسفية تركت هذه البلدان العربية الجديدة مفتوحة أمام الصدامات الداخلية الدائمة القائمة على أساس التنافس بين القبائل والطوائف الدينية. وقد تحدث قادة هذه البلدان بلغة القومية، لكن دولهم لم تكن موحدة تماماً في أي وقت. ولذلك تحولوا إلى نهج هيمنة إحدى القبائل أو الطوائف على الأخريات.
على النقيض من ذلك تماماً، كان العثمانيون يعرفون كيف يديرون هذا التنوع. كان نموذجهم اللامركزي يتبنى تعددية أساسية ترى إلى السياسة على أنها مسعى إلى تحقيق التوازن بين قبائل ومجتمعات دينية متفارقة. وقد تمكنت تلك المجتمعات المختلفة بشكل ما، وعلى نحو أفضل كثيراً مما تفعله الآن، من اعتناق التسامح وتعايشت واحدتها مع الأخرى بسلام، رغم الاختلافات.
في هذه الحقبة من فشل “الربيع العربي” وصعود التشدد الإسلامي، أصبحنا نشهد انفجاراً جديداً لتلك الاختلافات القبائلية والطائفية. وهذا هو الجذر الحقيقي للتحدي الذي أصبحت تفرضه الحركات من غير الدول، والتي تسعى إلى تشكيل حكومات ظل في مناطق غير محكومة. وقد رأينا هذه الحركات من قبل في كل من لبنان، وليبيا، والمناطق الفلسطينية.
تشكل “الدولة الإسلامية في العراق وسورية” (داعش)، ولو أنها تبدو مختلفة بشكل مخيف وأكثر سمية في أعين الغرباء، مجرد آخر مثال على ذلك فقط. لكنها ليست حركة أصيلة كلية. كانت المرة الأخيرة التي تمكن فيها تحالف من القبائل والمتشددين الإسلاميين تغيير خريطة العالم العربي في العام 1925، عندما اجتاح محاربو عبد العزيز بن سعود “الإخوان” المتزمتون كامل شبه الجزيرة العربية من أجل إقامة بلد إسلاموي جديد، والذي ما يزال يحمل اسم ابن سعود حتى الآن.
في نهاية حقبة الحكم الإمبريالي، كانت الفكرة المهيمنة في العالم العربي هي تحقيق قومية عربية موحدة. وقد أسرت تلك الفكرة المخيلة الشعبية، لكن مصر والعراق وسورية لم تقدم لهذه الفكرة أكثر من الخدمة الكلامية فقط، بينما ظلت تناضل من أجل قولبة هويات وطنية محلية من طوائفها وقبائلها المتنوعة الخاصة. وعندما فقدت القومية العربية بريقها في نهاية المطاف، حلت محلها فكرة متخيلة أخرى: الإسلاموية. ورغم أن هذه الفكرة تبدو أكبر من أي دولة عربية مفردة، فإنها لا توحد أحداً حتى الآن. ومع أن السنة والشيعة يتفقون على الوحدة الإسلامية، فإنهم لا يتفقون على تاريخ مَن أو تفسيره اللاهوتي أو قوانينه الخاصة هي التي ينبغي أن تعرِّف هذه الهوية، أو على أي طائفة هي التي ينبغي أن تقودها.
اليوم، ثمة خليط من الإسلاموية والقومية يميز السياسات العربية. وهو ما يفسر شراسة القسمة السنية-الشيعية الراهنة، حيث تدفع الهويات الدينية المنبعثة من الموات ضد حدود الدولة-الأمة التي كانت تُفهم على افتراض أنها تجسيد لهيمنة القومية العلمانية.
خلال معظم القرن الماضي، ظل هذا التوتر كامناً دون أن يفصح عن نفسه بفعل قوة الدكتاتورية، في إطار نظام إقليمي أصبح مدعوماً مؤخراً من الولايات المتحدة. أما الآن، فقد خسر كل من الدكتاتورية العربية والنظام الذي كانت تحافظ عليه دعائمهما -أولاً بسبب تحطيم الدولة الذي تسببت به الولايات المتحدة في العراق، ثم بسبب الثورات والانتفاضات الشعبية العربية. وهكذا، أصبح كامل الترتيب الإقليمي لما بعد الحرب العالمية الأولى قيد الاستنطاق من جهة المتطرفين الذين يمزجون الإسلام بالشعبوية والقومية والمعاداة للإمبريالية. وقد أصبح الغرب وحلفاؤه من العرب يحاولون مجرد اللحاق بالركب واستيعاب الأحداث وحسب، ولا يبلون في ذلك حسناً أيضاً.
اليوم، تفضل إدارة أوباما نفض يديها من سياسات الشرق الأوسط العصية على الفهم ومشكلاته غير القابلة للحل، ليتدبر أمرها سكان المنطقة المحليون.
لكن الواقع الجديد الذي يتكشف في المنطقة ليس غريباً مطلقاً على معرفتنا بالتاريخ، ولا هو نتاج للتاريخ والثقافة العربيين كله. إنه نتاج عملية كانت أوروبا هي التي وضعتها قيد الحركة قبل قرن كامل من الآن. وقد أرست القومية الجديدة التي أعقبت “الحرب العظمى” لنفسها جذوراً قوية فقط في أماكن مثل أوروبا، حيث كانت حدود الدول-الأمم الجديدة أفضل من حيث الاستجابة للانقسامات العرقية واللغوية الطبيعية.
العبرة المستفادة من ذلك هي أن أميركا تستطيع استخدام قوتها العسكرية من أجل احتواء، وإنما ليس حلا، نوبات العنف في العالم العربي كما هو مرسوم حالياً. وسوف يتطلب ذلك وضع ترتيبات مؤسسية، والتي يمكن أن تتيح تقاسماً أصيلاً للسلطة -في تكرار حديث للتوازن العامل الذي وضعته الإمبراطورية العثمانية، على مستوى كل دولة على حدة. ذلك وحده يمكن أن يجلب للعالم العربي السلام الذي استعصى عليه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.
كما هو واضح، فإن هذا العمل يخص دبلوماسيينا أكثر مما يتعلق بجنودنا. ويمكننا أن نبدأ في العراق، على أمل أن يساعد إحراز النجاح هناك بقية المنطقة أيضاً.
*خبير إيراني أميركي في شؤون الشرق الأوسط، وعميد كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، وهو مؤلف كتاب: “الأمة التي يمكن الاستغناء عنها: السياسة الخارجية الأميركية في تراجع”.
فالي نصر* – (نيويورك تايمز) 10/8/2014
ترجمة: علاء الدين أبو زينة.