منذ الانقسام الذي حدث صيف العام 2007 بسبب الخلافات العميقة بين حركتي فتح وحماس، واستيلاء حركة حماس في حينه على قطاع غزة، فيما بات يطلق عليه البعض “الحسم العسكري”، أو ما يسميه البعض الآخر “الانقلاب”، ووقوع الانقسام بين شطري “الوطن”، لم تتوقف الآمال “والدعوات” والمطالبات، لاسترجاع الوحدة، وإعادة اللحمة كما كان عليه الحال قبل ذلك الحدث، الذي كان من أسوأ الأحداث التي عصفت بالقضية الفلسطينية خلال العقود الأخيرة.
لم تتوقف المحاولات التي كانت تهدف إلى تقريب وجهات النظر بين الحركتين المتنازعتين، حتى قبل أن تستولي حماس على القطاع، ويمكن في هذا الإطار التذكير باتفاق مكة، الذي رعاه العاهل السعودي، وكان قد سبق ذلك وثيقة الأسرى، التي لاقت ترحيبا وأصداء جيدة على المستويين الرسمي والشعبي، وقد كانت تهدف الى تحقيق حالة من التصالح والتفاهم، بحيث لا تصل الأمور إلى ما وصلت إليه.
حالة التوتر ظلت قائمة الى أن استولت حركة حماس على القطاع، بالقوة المسلحة، في 14-6-2007، الأمر الذي شكل حالة فريدة في طبيعة العلاقات التي تحكم الفصائل الفلسطينية الوطنية والإسلامية.
بعد انتهاء الحرب الأولى -2008-2009على غزة، ازداد الشعور لدى الجميع بضرورة إنهاء الحالة الشاذة، وإعادة اللحمة إلى شطري “الوطن”، وبدأت المحاولات من جديد، محاولات لا نعلم مدى جدية الطرفين المتنازعين في التعامل معها، لان النتيجة حتى اللحظة، كانت، أن الانقسام لا زال سيد الموقف، ثم كانت الورقة المصرية عام 2009، وتعددت اللقاءات، وكان آخر ما “صدر” في هذا الإطار، هو اتفاق الدوحة، برعاية أمير قطر، اتفاق لم ير النور، ولن يراه.
منذ ما قبل انتهاء العدوان الأخير على القطاع، تصاعدت الدعوات إلى إنهاء الانقسام، وصار الحديث عن ذلك على لسان كل المسؤولين الفلسطينيين، وان هذا الموضوع يجب إعطاؤه الأولوية القصوى والأولى بعد الانتهاء من موضوع الدولة في الأمم المتحدة.
وبعيدا عن الشعارات الوحدوية والداعية إلى إنهاء الانقسام التي تدغدغ مشاعر الجماهير (هذه الشعارات، هي ذات الشعارات، التي ظلت تتردد على السنة قادة الحركتين، منذ حزيران “الأسود”) لا بد من محاولة لقراءة الواقع “المستجد” في الساحة الفلسطينية، بعد انتهاء العدوان على القطاع، وما هي احتمالات إنهاء الانقسام الذي تسببت به حركتي حماس وفتح تحديدا؟ وما هي احتمالات بقاؤه، لا بل تعميقه؟.
كان واضحا منذ بداية العدوان، ان هنالك محاولات حثيثة من قبل حركة حماس لإبقاء “القيادة” في رام الله، بعيدة قدر الإمكان عن التدخل في هذا الموضوع، والتعامل معه على انه موضوع “حكومة حماس”،بمعنى أن غزة “إلنا وبس، ومحدش يمد ايده أو له دخل بيها”، وان بمقدور الحركة التعاطي مع ما يجري، دون ما حاجة إلى مساعدة من”رام الله” في هذا الإطار.
لقد أرادت ليس حماس وحدها، لا بل الكثير من الأطراف، ومن بينها إسرائيل وأميركا وبعض من أوروبا، ان تبدو السلطة الفلسطينية غير مشاركة في أي من الجهود المبذولة لوقف العدوان الصهيوني على القطاع، خاصة في ظل حالة من الإصرار “فريدة”،من قبل السلطة في رام الله، التوجه إلى الأمم المتحدة في موضوع الدولة الفلسطينية
وقد كانت مواقف بعض قيادات حركة حماس، واضحة في هذا الإطار، كانت ترغب كما وتريد، “تهميش” دور السلطة في كل ما يتعلق بالعدوان من اجل ساعة الحقيقة، التي لا بد ان تأتي بعد انتهاء العدوان، والتي تتمثل في “إن من تعرض للعدوان هي قوى المقاومة، وعلى رأسها حماس، في محاولة لتهميش دور اذرع المقاومة الأخرى، وان من حق حماس دون سواها، أن تقطف كل النتائج المتعلقة بذلك، سواء كان ذلك من خلال الاتصالات السياسية او الدبلوماسية، أو ما يتعلق بالاتفاق وتوقيعه او الموافقة عليه، أو الشروط أو المطالب التي يتضمنها الاتفاق”.
كما كان واضحا من خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده خالد مشعل وحضور باهت لعبد الله شلح، بعد سريان الاتفاق،”الذي كانت القيادة في رام الله بعيدة عنه كليا وليس في صورته”، ان حماس ترسل رسائل جلية الى العالم، رسائل تقول، “إنها هي المسؤولة عن القطاع”،ومنذ اللحظة الأولى التي ابتدأ العدوان، لم تتوقف الحركة عن النشاط السياسي والاتصالات لاستثمار ما يجري، وأن تحصد المكاسب التي طالما سعت إليها، لا بل، كانت احد الأسباب في تعطيل المصالحة حتى اللحظة.
لم تتوان حركة حماس عن استثمار كل الطرق والأبواب التي تم فتحها، سواء مع الاتحاد الأوروبي او الولايات المتحدة، وقد كان لحديث خالد مشعل مع قناة سي ان أن، دلالات كبيرة، على رغبة الحركة في إعطاء إشارات لا لبس فيها، حول توجهات الحركة، وانها تنحى باتجاه العمل البعيد عن “العنف”، لا بل تم تثبيت مصطلح “الأعمال العدوانية” من قبل الطرفين في صيغة الاتفاق، وهي المرة الأولى التي يتم وصف الأعمال المقاوِمَة الفلسطينية، بمثل هذا التوصيف من خلال اتفاق موثق.
وقد تحدث السيد مشعل في ذلك اللقاء، بلغة دبلوماسية وسياسية هادئة، أراد من خلالها ان يبدو متوازنا مع المطالب الدولية، كما وأعلن قبوله بلا ريب أو مراوغة، بدولة فلسطينية على حدود العام 1967.
ما جرى من اتصالات وعلاقات “جديدة” مع العالم، كان بالنسبة لقادة حماس، فرصة ذهبية تاريخية ونادرة، انتظرتها منذ سنوات عديدة، وهي تعتقد بان هذا العدوان بكل ما فيه من “مصائب”، فيه أيضا من الايجابيات التي لا بد من استثمارها، هذا العدوان، جعل الحركة اقرب ما تكون الى الأحضان الغربية وعلى رأسها أميركا، وهي –حماس- التي كانت تسعى في السر والعلن، من اجل فتح مثل هذه الأبواب والآفاق لمثل هذه العلاقات
ما جرى في الحقيقة، هو ان حركة حماس، وأكثر من أي وقت مضى، صارت احد اللاعبين الرئيسيين البارزين في الساحة الفلسطينية، وأصبح لها ثقل اللاعب “البديل” او الاحتياط لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهذا ما سعت إليه مع كل قوى الإسلام السياسي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
ان التعاطف الشعبي الذي حازت عليه حماس، خلال وبعد العدوان، سوف يجعل من قادتها أكثر إصرارا على التأكيد على مطالبهم، التي طالما جوبهت بالرد والصد من قبل “الغريم” الرئيس “فتح” وباقي الفصائل التي تتشكل منها المنظمة، تلك المطالب التي كانت في أكثر من محطة من محطات التفاوض، إحدى العقبات الرئيسة في عدم الوصول الى حل، او امتناع حماس عن الانخراط في المنظمة.
وفي ذات الإطار، وفي ظل هذا التعاطف الشعبي، فانه لن يكون مفاجئا، فيما لو ان الحركة وافقت على تنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية، في الضفة الغربية والقطاع، وهو الموضوع الذي كانت ترفضه حتى فترة ما قبل العدوان، وذلك من اجل قطف الثمار، في محاولة استباقية وقبل أن تتبين الكثير من الجوانب “السيئة” او غير المعلنة للاتفاق، وما سيترتب على حكومة حماس القيام به، عندما يبدأ التنفيذ الفعلي لبنوده، خاصة إذا ما استذكرنا الصور التي تم بثها عبر الفضائيات، والتي تروي حكاية مختلفة، عن بداية لعلاقة جديدة لم يألفها المواطن الفلسطيني بين قوات الاحتلال وبين قوات الأمن التابعة لحركة حماس، حيث يقف هؤلاء وهؤلاء على –الحدود- في حالة من الاسترخاء لم نشهدها أبدا بين الجانبين.
بعيدا عن الحالة العامة التي سادت الشارع الفلسطيني بعد انتهاء العدوان، وبعيدا عن حالة “النشوة” التي يشعر بها الكثير من أبناء الشعب الفلسطيني، فانه لا بد من التعامل مع ما جرى بكثير من العقلانية والتعقل، وعدم الاستعجال في البحث عن إنهاء الانقسام، لان ما ستتمخض عنه المحاولات والاتصالات، لن يكون بحجم التوقعات.
ما تحقق لحركة حماس من “انجازات” على كل الصعد، سوف يجعل من الصعب عليها التراجع في مواقفها أمام حركة فتح وبقية فصائل المنظمة، وسوف يجعلها “تتمادى” في وضع الشروط من اجل الوصول الى المصالحة، خاصة ونحن نعلم، بأنها كانت تضع شروطا لم يك بالإمكان قبولها، وهي بعد لم تصل الى ما وصلت إليه بعد العدوان الأخير، فما بالك وقد تحقق لها كل هذا الذي تحقق.
بالمقابل، فان حركة فتح وعلى رأسها أبو مازن، سوف تعتبر انها لم تكن اقل قدرة أو كفاءة على إدارة معركة سياسية لا تقل شراسة عن المواجهة العسكرية التي خاضتها حركة حماس، عندما تحقق الاعتراف بالدولة الفلسطينية والحصول على صفة مراقب، وهو المطلب الذي وقفت دولة الاحتلال بوجهه بكل قوة، وساندها في ذلك الولايات المتحدة ومعظم أوروبا.
بتقديرنا، ان الحديث “المكثف” من قبل الحركتين عن ضرورة إجراء المصالحة، يأتي لدغدغة العواطف ومراعاة للأجواء السائدة في الأراضي الفلسطينية، وضمن حالة الغضب من استمرار الانقسام، وهي أحاديث لن تختلف في مجملها عن الأحاديث التي سمعها المواطن الفلسطيني على مدار أعوام الانقسام، خاصة وان التجارب السابقة، أثبتت ان لا نوايا حقيقية لدى أي من أطراف النزاع- فتح وحماس- من اجل العمل الجاد لوضع حد لحالة الانقسام.
بعيدا عن حالة “النشوة والاحتفال” فإننا نعتقد بأن حالة الانقسام باقية، وكل ما نتمناه هو ألا تزداد ترسيخا وعمقا، خاصة في ظل ما يظهر من خلافات واختلافات بين قادة حماس في أكثر من موضوع مفصلي، وفي ظل ما تردده بعض قيادات حماس من انه لا يمكن التلاقي بين برنامجين مختلفين أو متناقضين، احدهما برنامج مقاوم تمثله حماس، وبرنامج فاشل أو تفاوضي يمثله أبو مازن، هذا آخر ما كان قد صدر عن محمود الزهار على قناة الميادين.