هل العرب محكومون إلى الأبد بقدر المراوحة بين الدكتاتورية والتجليات الدينية المتطرفة؟ هل ثمة شيء فريد في ثقافتهم ومعتقداتهم، والذي يجعلهم غير قادرين على بناء مجتمعات مستقرة ومتحضرة؟
كثيراً ما أصبحت أسمع هذه الأسئلة في الوقت الراهن، والتي كان يمكن أن تعد قبل ثلاثة أعوام فقط مضللة ومثيرة للحفيظة، إذا طرحها الباحثون والصحفيون والدبلوماسيون بصوت عال وبجدية، ومن بينهم الكثير جداً من العرب أنفسهم.
الفكرة قديمة، وتقول إن ثمة خطباً ما يعتري ما يقارب 400 مليون شخص، الذين يعيشون في القرن الحادي والعشرين في المنطقة بين موريتانيا وسلطنة عمان، والذي يجعلهم غير قابلين للحكم سوى بالشدة: وحسب هذه الرؤية، وفي حال لم يكونوا تحت قبضة دكتاتوريين، فإن هؤلاء سيختارون التشددية الدينية. وكان هذا الاعتقاد هو الذي أبقى على الأنظمة الاستبدادية والدكتاتوريات ما بعد الكولونيالية قائمة في السلطة طوال عقود -وجعل دولاً مثل كندا تداوم على الاعتراف بهذه الأنظمة وتزويدها بالمساعدة.
الآن، بعد أن سقطت الثورات العربية الناجحة للعام 2011 في دورة حتمية من الثورات المضادة والأخرى المضادة للمضادة؛ بعد أن جلبت الانتخابات في غزة ومصر الإسلاميين إلى السلطة؛ بعد أن أصبحت حماس تقود جانب القوة في ردود فعل فلسطين على إسرائيل؛ بعد أن أنجبت المعارضة الشعبية السورية ميليشيات الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام المتشحة بالسواد، أصبحت هذه الأسئلة تتقدم إلى الواجهة مرة أخرى وتؤخذ على محمل الجد.
بطبيعة الحال، لا يمكن تحميل المسؤولية عن ذلك للدين وحده (أكبر الدول المسلمة، مثل إندونيسيا وبنغلادش، لا تعاني من مثل هذه المشكلة)، أو للجغرافيا (الدول الأفريقية والشرق أوسطية غير المسلمة أبلت أفضل بكثير). إنه شيء يتعلق بالعرب أنفسهم. أو ربما شيء يتعلق بالطريقة التي عُوملت بها الدول العربية والمواطنون العرب. ولكن، هل سيكون هذا الواقع المقيم؟
كان هذا السؤال هو الحافز الذي دفع باثنين من الباحثين الخبراء في شؤون الشرق، إلى إنجاز كتابيهما اللذين يبحثان في لحظة الانتقالة العربية الراهنة.
نظر شادي حميد، الباحث في معهد بروكنغز، في داخل الحركات الإسلامية الجديدة الموجودة في نصف دزينة من البلدان في كتابه “إغراءات السلطة”. ويرى حميد تناقضاً شكلته ستة عقود من الدكتاتورية: لأن أفكار الليبرالية، والمساواة والعلمانية كانت قد تسممت بشكل سيئ على يد المستبدين العرب، الذين استخدموا هذه المفاهيم لاستقطاب المساعدات وكوسائل لتمكين أنفسهم، أصبح البديل ما بعد الاستبدادي محكوماً بأن يكون “ديمقراطية غير ليبرالية”. وقد أصبح المعتقد الديني هو الشكل الرئيس للمعارضة الشعبية (لم يكن الأمر دائماً على هذه الشاكلة). وهكذا، وفي مسار انحداري مقلق، أصبحت الأحزاب الدينية تتمتع بالشعبية في أوساط الناخبين كلما وعدت بالمزيد من تقييد الحقوق والحد من المساواة. وحسب هذه الرؤية، يستطيع العرب في الوقت الراهن اختيار إما الحرية أو الديمقراطية -وإنما ليس الأمرين معاً.
كتب السيد حميد: “تماماً مثلما تخندقت الانقسامات الاقتصادية في الديمقراطيات الغربية، تقوم الانقسامات الإيديولوجية حول دور الدين في الحياة العامة بتكريس نفسها عبر منطقة الشرق الأوسط”. ويقول إن الحركات الإسلامية، وعلى عكس ما قد يظنه الكثيرون، تصبح أكثر اعتدالاً وليبرالية وبراغماتية عندما تتعرض للقمع وعندما تتحدد قدرتها على العمل: لكن السلطة المطلقة تذهب بها فعلياً إلى التطرف (كما كان الحال مع الرئيس المصري الإسلامي محمد مرسي). ونتيجة لذلك، كما يقول السيد حميد، يجب على الدول الغربية أن تتدخل بفرض العقوبات، والأهم من ذلك، بعرض الحوافز والمكافآت (مثل الوعود بإبرام اتفاقيات التجارة الحرة مع الدول التي تلتزم بالحقوق) من أجل ضبط تلك الحركات.
ومن جهة أخرى، كتب خوان كول، الباحث في شؤون الشرق الأوسط في جامعة ميشيغان، كتاباً مهماً يعكس الصورة المقابلة. كان عمله الميداني الذي أنجزه في البلدان نفسها وعلى مدى فترة مماثلة، يبحث في الحركات الليبرالية والقومية العربية (أي المناهضة للإسلاميين). ويخلص كتابه المعنون “العرب الجدد: كيف يقوم جيل الألفية بتغيير الشرق الأوسط” إلى أن الثورات العربية تقف الآن حيث كانت الثورة الفرنسية في العام 1852، وحيث كانت ديمقراطية أوروبا الشرقية بعد أن تم سحق ربيع براغ في العام 1968: محاصرة بين الأطروحة ونقيضها، في انتظار تدخل الجيل القادم.
ذلك الجيل العربي (الهائل) من الشباب، كما يلاحظ الكاتب، يبدو أقل عرضة للوقوع في منطق الديمقراطية غير الليبرالية في مقابل الليبرالية الزائفة غير الديمقراطية: إنه جيل أكثر تعليماً بكثير، وأكثر تمدناً واتصالاً، وهو على نحو حاسم أيضا: أقل تديناً واهتماماً بتطبيق الشريعة. أو أن معظمه كذلك. هناك “استقطاب” في جيل الألفية من الشباب العرب “الذين يميل معظمه إلى أن يكونوا أقل ورعاً، لكن عدداً يعتد به منهم يدعم الأصولية. والبعض من عنف اليمين الديني”، كما يلاحظ، “ربما يكون في جزء منه رد فعل على هذا التراجع في نسبة المسلمين الملتزمين في هذا الجيل”. وكما لاحظ مفكرون وباحثون آخرون، فإن الأصولية تميل إلى أن تكون ردة فعل على العلمنة الأوسع إطاراً للمجتمع.
وهكذا، ربما يستمر هذا الوضع في إنتاج حركات متطرفة مثل الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (التي يدعمها 4 % فقط من السوريين)، وإنما قدر أقل بكثير من الدعم للأحزاب الدينية الانتخابية السائدة -أو للدكتاتوريين والجنرالات الذين يعارضونها.
من هاتين الدراستين، تظهر صورة لمنطقة تبدو الآن عالقة بين الأضداد. لكن ذلك يشكل مجرد لحظة فحسب -مهما كانت كلفة العام 2011 من الدم وعدم الاستقرار، فإنه سمح للتغيير بأن يبدأ على الأقل، وصنع فُرجة لشيء آخر غير الدكتاتورية أو التطرف الديني. إن الدول العربية لا تنحدر في دوامة الفوضى، وإنما تعبرها وحسب.
داوغ ساوندرز – (غلوب أند ميل)