ذكرت في المقال السابق بعض الجوانب التاريخية في العلاقة بين الإخوان وعبدالناصر، وأوضحت جانباً مهماً من السلبيات في ذلك العصر وشيئاً من الإيجابيات. وهنا نركز على جانب مهم من الإيجابيات في ذلك العصر والحكمة من وراء ذلك، وفق رؤية بعض المنصفين، وفي مقدمتهم الشيخ الجليل يوسف القرضاوي.
يقول القرضاوي في مذكراته وفي فصل كامل عن عبدالناصر: ‘وقد تعلقت قلوب أهل الخليج أكثر بعبد الناصر، حين ‘أمّم’ قناة السويس، وواجه التحدي الغربي الذي تمثل في العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وإسرائيل) على مصر، وإعلان عبد الناصر من منبر الأزهر: ‘سنقاتل، سنقاتل’.
ما أجمل أن تتعلق قلوب الشعوب العربية بمصر وبعبدالناصر الرئيس الزعيم، في ذلك الموقف العصيب، وموقفه العظيم من الاحتلال والعدوان الثلاثي كان بارزاً، لا نزال حتى اليوم نفتقده على كل المستويات الرسمية. هل يتكرر الموقف العظيم في بعض بلدان العالم العربي وخصوصاً في ضوء ثورات الربيع العربي؟.
ثم يقول الشيخ القرضاوي: ‘فلا غرو أن يحزن أهل الخليج على فراق عبد الناصر، وإن كان وقع الموت على أهل قطر وأهل الخليج عامة خفيفا هينا، لا يزلزل الإنسان الخليجي، كما يزلزل الإنسان المصري. لكنهم على أي حال تأثروا بموت عبد الناصر. وجاء التوجيه في قطر إلى خطباء المساجد أن يصلوا صلاة الجنازة -صلاة الغائب- على عبد الناصر، وفي جامع الشيوخ (الجامع الكبير) وقف المصلون جميعا خلف الإمام ليصلوا ما عدا واحدا، رفض القيام والمشاركة في الصلاة، هو أخونا الكريم الشيخ مصطفى جبر رحمه الله، قال: أنا لا أصلي على ظالم وطاغية وكان الشيخ مصطفى موظفا في وزارة التربية. فأمر وزيرها الشيخ قاسم بن حمد آل ثاني رحمه الله حين بلغه ذلك، بإيقافه عن العمل وقد توسطنا له عند الوزير، فرفع عنه العقوبة.
إذن هناك في داخل الإخوان نظرات متباينة إلى عبدالناصر، فهناك من يخلط الأمور ببعضها، وهناك من يميز، ويرى بوضوح السلبيات التي لا تحجبه عن الإيجابيات. هذا الموقف يذكرني بما رواه لنا الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله تعالى عن انه عندما سمع بموت عبدالناصر وكان في السجن دعا الله تعالى أن يرحمه، فغضب منه بعض الإخوان المساجين. وهكذا تتعدد الرؤى هناك من يعفو ويغفر وهناك ومن يحقد ويسعى للانتقام حتى بعد الموت.
ثم يقول الشيخ القرضاوي كذلك: ‘ونُقل خبر تعزيتي في عبد الناصر إلى الإخوة في الكويت وغيرها مجردة عن دواعيها وملابساتها، فإذا بي أواجه حملة شعواء من الإخوان عليَّ أني عزيت في الطاغية الذي عذب الإخوان، وعطل دعوتهم، وعوَّق مسيرتهم، وفعل بهم الأفاعيل. لكن عيب الجماعات الكبيرة أن فيها أناسا تغلب عليهم النزعة ‘الظاهرية’ في قراءة الوقائع، وفي تحليل الأمور، فيحكمون على الأمور بظواهرها القريبة، دون النظر إلى آفاقها البعيدة، لا يعرفون ما يسميه الفقهاء فقه المقاصد، ولا فقه المآلات.
ثم يوضح العلامة القرضاوي، معياراً آخراً مهماً للحكم على الناس المسؤولين وتقويم آدائهم، لمن أراد وخصوصاً الحكم على الزعماء، ومن يتصدى للعمل العام والمسؤولية العامة فيقول: ‘فالتعديل والتجريح من أجل مصلحة الدين ومصلحة الأمة أمر مشروع. وعلى هذا مضت سنة أئمة الحديث في خير القرون ومن بعدهم، يقولون عن الموتى في كتبهم: هذا مغفل، وهذا كثير الغلط، وهذا مدلس، وهذا كذاب، وهذا أكذب الناس، ليحذروا الأمة أن تثق بهؤلاء، أو تأخذ عنهم الدين’.
وطبعاً إذا جاز ذلك في حق العلماء والخلفاء السابقين والباحثين والدارسين، فلا بأس أن يذكر التاريخ ذلك من المتأخرين.
ثم يقول الشيخ القرضاوي: ‘لا ريب أن الناس في رجل كعبد الناصر جد مختلفين، فله أنصار يرتفعون به إلى أعلى عليين، وله خصوم يهبطون به إلى أسفل سافلين. وبين مدح المغالين في المدح وقدح المبالغين في القدح تضيع الحقيقة’.
وهذه في ظني كما يوضح الشيخ القرضاوي هي الحقيقة المؤلمة التي يجب أن نتخلى عنها عند التأريخ أو التقويم لعصر من العصور أو لزعيم من الزعماء مهما كان محبباً أو حتى مكروهاً ولذلك يقول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساوئا
ثم يقول الشيخ العلامة القرضاوي: ‘ويهمني أن يعلم قارئي أني لا أدعي العصمة لنفسي، ولا أزعم أني فوق البشر الذين يتأثرون بمشاعر الحب والبغض، لكني أرجو أن أسلك ‘النهج الوسط’ الذي اخترته منهاجا لي في حياتي كلها، ورضيت به، وألقى الله عليه’.
ما أجمل أن يكون الانسان وسطياً عند تقويم الآخرين والأجمل أكثر أن يتبع المنهج الوسطي حتى عند تقويم النفس كما أوضح شيخنا الجليل حفظه الله تعالى، وهو المبدأ الذي أكد عليه الامام البنا رحمه الله تعالى، كما جاء في الأصل السادس من الأصول العشرين في رسالة التعاليم حيث يقول: ‘كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وكل ما جاء عن السلف الصالح قبلناه مادام موافقاً للكتاب والسنة وإلا فإن كتاب الله وسنة رسوله أولى بالإتباع’.
ولذلك فإنني أقول- وسط كل ذلك الخضم الهائل من التفسيرات والتأويل والحب والبغض- أن هناك أثراً ملموساً لفكر الامام البنا والإخوان في بعض القرارات الاصلاحية التي اتخذتها الثورة أو اتخذها جمال عبدالناصر، ومنها ما يتعلق بالوحدة القومية والعربية والاسلامية، والحياة الحزبية وإلغاء الأحزاب وخطوات الاصلاح وخصوصاً الاصلاح الزراعي والموقف من الغرب والهيمنة.
وتدليلاً على ما أقوله هنا، ذلك البيان أو الوثيقة الاصلاحية التي أرسلها الإخوان إلى عبدالناصر بتاريخ أول أغسطس 1952 بعد قيام الثورة بأسبوع واحد، ويمكن أن نسميها أيام العسل مع الثورة، وهو البيان الذي أقرته الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، في إجتماعها غير العادي المنعقد بالمركز العام يوم الجمعة أول أغسطس 1952.
وأشار البيان كما جاء تفصيلاً- بتوقيع المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي-مذكوراً في الصفحات 450-465 من الجزء الثاني من مجموعة مجلدات: وثائق الإخوان المسلمون المجهولة، بتقديم الأستاذ جمال البنا طباعة دار الفكر الاسلامي 2009، إلى عدة نقاط مهمة منها: التطهير الكامل الشامل والاصلاح الخلقي والتربوي والاصلاح الدستوري والاصلاح الاجتماعي. ومنه العمل والتكافل الاجتماعي وتحديد الملكيات الزراعية وتحديد العلاقة بين المالك والمستأجر واستكمال التشريعات العالمية واصلاح نظم التوظف وإلغاء النياشين- وهذا ما جاء في الدستور المصري أخيراً- وجعل المسجد مركزاً دينياً وثقافياً واجتماعياً وخطوات الاصلاح الاقتصادي والتربية العسكرية وإصلاح البوليس أي الشرطة’.
لقد لفت بعض الاعلاميين نظري، عندما طلبوا إليّ أن أكتب مقالاً في هذا الموضوع بمناسبة ميلاد الزعيم الراحل عبدالناصر. أقول لفت نظري هؤلاء إلى قضية مهمة جداً، هي ضرورة إعادة تقييم العلاقات التاريخية بين الإخوان وعبدالناصر بشكل موضوعي، وفقاً للمعايير التي وضعها العلامة القرضاوي. وربما يكون ذلك بتشكيل لجنة من الطرفين الإخوان والناصرين وغيرهم من المؤرخين أو المعنيين بالتاريخ، للاتفاق على تفاصيل هذا الاقتراح وكيفية تنفيذه وفقاً للمبدأ القرآني الكريم: ‘ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد’. كم تداولنا هذا الأمر ونحن في المنفى مع بعض الأخوة الناصريين وغيرهم، وفي مقدمتهم الكاتب الكبير محمد عبد الحكم دياب. وقد خسر الطرفان خسارة كبيرة بسوء العلاقة والظلم الذي وقع أثناء تلك المدة. أتمنى أن نخرج جميعاً من روح التقسيم وواقع الانقسام الذي يهدد الوطن والأمة حتى في الكتابة أو الشهادة. وسأحاول كتابة سلسلة من المقالات في المستقبل، توضح جوانب كثيرة في العلاقة التاريخية بين الطرفين بمشيئة الله تعالى.
‘ كاتب مصري- القدس العربي .