سمعت أول مرة عن عبدالناصر رحمه الله تعالى، يوم حريق القاهرة- 26 يناير 1952، وكنت آنئذ طالبا في مدرسة المساعي المشكورة الثانوية في شبين الكوم، محافظة المنوفية. ذكر لنا بعض الأخوة الكبار من الطلاب والمدرســـين من الإخوان في فسحة الغذاء، وكانت ساعة ونصف في تلك الأيام، وكنا نستعد لمظاهرات في الأيام التالية، ذكروا لنا، شيئاً سريعاً عن حركة الضباط الأحرار، وعن جمال عبدالناصر وعلاقته بالإخوان، مع مجموعة أخرى من الضباط الأحرار والشخصيات الفاعلة من صلب حركة الإخوان مثل: معروف الحضري ومحمود لبيب رحمهم الله تعالى جميعاً.
لم يكن الأمر آنئذ- أمر التفاصيل الدقيقة- على قدر كبير من الأهمية بالنسبة للإخوان الطلبة، حيث كان الإخوان-بل والقوى الوطنية كلها- يعيشون حالة من الغليان ضد النظام الملكي، وفساد الملك فاروق وحاشيته. كان الإخوان في مظاهراتهم المنضبطة آنئذ يهتفون هتافات ربانية مدوية منها: هبي ريح الجنة هبي’، ومنها: ‘الموت في سبيل الله أسمى أمانينا’ وذلك للتذكير بالإخوة الكرام الذين يستشهدون في القتال ضد المحتل الانجليزي، تحت اسم الفدائيين والتذكير بشعار الإخوان. وكانت القوى الوطنية الأخرى وخصوصاً القوى الاشتراكية في تظاهرهم يهتفون ‘أين أمك يا فاروق، أين أختك يا فاروق’، وكان الاثنان يلتقيان أحياناً في التظاهرات الكبيرة والمناسبات الوطنية العامة.
لا نستطيع أن نكتب مقالاً قصيراً كهذا، يعالج قضية العلاقات الكاملة بين الإخوان وبين جمال عبدالناصر أو ثورة يوليو بالدقة المطلوبة، وذلك لعدة أسباب منها: أن تلك العلاقات إستمرت ما يقرب من ثلاثين سنة، وأن تلك الفترة الزمنية كانت ثرية جداً بالأحداث والوقائع قبل الثورة وما بعدها، وكذلك تذبذب تلك العلاقات وتنوعها، وخصوصاً بشأن عدة قضايا منها: إنضمام عبدالناصر للإخوان تنظيمياً وأثره في النظام الخاص وتأثير النظام الخاص فيه، وتحديد موعد إندلاع الثورة وموافقة الإخوان ودعمهم لها على كل المستويات، ودور الإخوان في حرب القنال ومشاركة ناصر وبعض رجال الثورة من الضباط الأحرار في التدريب وتوفير السلاح، والفشل في التوصل إلى شراكة سلمية في الحكم بعد الثورة لمدة طويلة، والمذكرات العديدة والاجتماعات الكثيرة ثم التوتر في العلاقات، وخصوصاً في سنوات 1953، 1954،1965 واحتلال المركز العام للإخوان، ودور ناصر في ذلك، وعلاقته القوية المستمرة مع بعض أركان النظام الخاص، كما تقول بعض المصادر والمراجع، والمظاهرات وأهمها مظاهرة ميدان عابدين، وعودة محمد نجيب للحكم تحت ضغط الإخوان، وحادث المنشية بين الحقيقة والتآمر، والمحاكمات الهزلية للإخوان سنة1954 وسنة 1965 ثم السجون والمعتقلات، وما وقع فيها من تعذيب شديد ومطاردات بعد الشنق والقتل، ثم العدوان الثلاثي وحرب 1967 ثم وفاة عبدالناصر رحمه الله تعالى.
كل هذه الأحداث والوقائع المهمة، كانت ميداناً للتأريخ والقصص والنثر والشعر والمسرح وغيرها من وسائل التعبير، ولكن معظم إن لم يكن كل من كتب في ذلك من الجانبين، تناول من وجهة نظره الأحداث والوقائع وربما فسرها في ضوء رؤيته فقط. نظر الطرفان الصديقان بعد الخلاف إلى بعضهما البعض في الغالب نظرة عداوة أو نظرة ملاك إلى شيطان حتى أطلق بعضهم على الإخوان إسم إخوان الشياطين، أو التركيز على السلبيات دون أي من الإيجابيات، وهي النظرة التي تفسد العلاقات والتاريخ، وتنأى تماماً عن الموضوعية كلاً أو جزءا.
والخاسر الأكبر هو الوطن الجريح، وربما كانت الخسارة وخصوصاً في حرب 1967 عقاباً على هذا الموقف وكان الإخوان وهم في المعتقلات قد طالبوا بأن يشتركوا في الحرب ضد إسرائيل ولم يمكنوا من ذلك. إستمعت إلى معظم قيادات الإخوان الذين قضوا في المعتقل أو السجن سنوات طويلة، بعضها وصل إلى عشرين سنة من 1954-1974. وممن استمعت إليهم بإهتمام شديد الأستاذ حسن الهضيبي، والأستاذ عمر التلمساني، والأستاذ الدكتور سعيد رمضان واللواء صلاح شادي والدكتور أحمد الملط والأستاذ مصطفى مشهور والأستاذ كمال السنانيري والأستاذ أحمد حسنين والحاج عباس السيسي والأستاذ مأمون الهضيبي والأستاذ محمود شكري والشيخ الجليل عبدالمعز عبدالستار، والدكتور أحمد العسال والأستاذ محمد أحمد علي، الذي قد لا يعرفه كثير من الإخوان، وكان مساعداً وسكرتيرا، للأستاذ عبدالرحمن السندي والدكتور توفيق الشاوي، والأستاذ عبدالقادر حلمي والشيخ محمد الغزالي وآل الشربيني عصام وصلاح وسيف، والأستاذ أحمد رائف والدكتور سليمان حجر، والأستاذ علي جريشة والدكتور ممدوح الديري والأستاذ جابر رزق والأستاذ محمد هلال وشقيقه الأستاذ عبدالقادر هلال والدكتور حسين كمال الدين والأستاذ فتحي الخولي والأستاذ محمد عبدالحميد والدكتور إبراهيم عبيد وإخوانه، وصهري الأستاذ عبدالقادر شاهين- المحامي، والأستاذ الجليل أحمد البس وغيرهم ممن قضوا رحمهم الله تعالى جميعاً.
استمعت إليهم طويلاً في هذه القضية كما استمعت إلى آخرين منهم أستاذنا الدكتور محمد فريد عبدالخالق والأستاذ عثمان إبراهيم والأستاذ محمد مهدي عاكف والمهندس مراد الزيات والأستاذ محمود حامد والأستاذ محمد العزباوي وآل البنا وغيرهم ممن هم على قيد الحياة ومنهم الأستاذ محمد فؤاد مصطفى والأستاذ ابراهيم منير حفظهم الله تعالى وأطال عمرهم.
هذا على سبيل المثال لا الحصر.
إستمعت وقرأت لمن كتب منهم عن التعذيب والوحشية وإهدار الكرامة، وجوانب مما تعرضوا لها في السجون والمعتقلات، وبالتأكيد كان في أذهانهم الخسارة الكبيرة التي عادت على الوطن من جراء ذلك الانقسام والظلم، وبالتأكيد لم يكن من الممكن أن يكتب أي منهم عن إنجازات أو نجاحات أو إيجابيات في عهد عبدالناصر. هانت أي إيجابيات وإن كثرت، ومهما كانت تتعلق بكرامة الوطن، أمام هذا الظلم الفادح وإهدار كرامة البشر أو المواطنين، أيا كانوا من الإخوان المسلمين أو من الشيوعين أو غيرهم.
قرأت كذلك لعدد كبير ممن أرخوا لهذه الفترة من الناصريين والشيوعيين والليبراليين ووجدت إختلافاً شاسعاً في النظرة إلى الحدث، أي حدث وأي وقائع، فبعضهم ينظر نظرة جزئية من زاوية أو أكثر لا تصل إلى حد الشمول أو النظرة الكلية، وبعضهم ينظر بعين المحب أو الكاره وبعضهم كتب بعد أن نسي بعض الأحداث أو تغيرت الأحوال والظروف، ومن ثم ضاعت الموضوعية والانصاف كلاً أو جزءاً، وضاعت النظرة الفاحصة الشمولية أو الكلية، التي يجب أن تكون مع كل تأريخ حتى تستطيع الشعوب النهوض، ويضطلع المسؤولون والمعارضة بالمسؤوليات التاريخية الملقاة على عاتق كل منهم.
ومن أهم سلبيات عصر عبدالناصر، الظلم الذي وقع على أهل الرأي والأيدلوجيات جميعاً وفي مقدمتهم الإخوان المسلمين والشيوعيين وبعض الاعلاميين والكتاب ممن اتهموا بالتجسس، حتى المحاكمات الثورية والشعبية العابثة، التي يسأل قضاتها المتهمين الأبرياء من الإخوان أن يقرأوا الفاتحة بالمقلوب.
ومن أهم السلبيات السجون والمعتقلات المهينة للكرامة، تلك الكرامة التي كان ينادي بها عبدالناصر نفسه وكان الشعار’إرفع رأسك يا أخي’. ومن السلبيات استعلاء رجال الجيش والأمن على الشعب، واستحواذهم على الموارد وتدميرهم وسرقاتهم للبيوت التي دخلوها للقبض على الإخوان، ومن السلبيات الكبيرة، الهزيمة الساحقة في حرب 1967بالإهمال أو الخديعة أوالفساد، أوالمعلومات الخاطئة والمغلوطة، التي زوّد بها بعض جنرالات الجيش وسائل الاعلام وخصوصاً أحمد سعيد وصوت العرب حتى قال عبد الناصر: ‘العدو الذي توقعناه من الشرق آتى من الغرب’. ومن السلبيات في عهد عبدالناصر تقييد الحريات وإلغاء الأحزاب والقضاء على المعارضة أياً كانت، والدخول في خصومات مع الحكام العرب، كان إصلاحها صعباً ومهيناً. وتمثل بعض، ذلك الاصلاح في مؤتمر الخرطوم المعروف بمؤتمر اللاءات الثلاث، لا للتفاوض لا للصلح لا للاعتراف، وذلك بعد أن هدد ناصر الملك فيصل بنتف شعر ذقنه.
ومن الايجابيات في عهد عبدالناصر التي لاتخفى على عاقل ولا ينكرها إلا جاحد أو كاره، إرتفاع كرامة وقيمة المواطن المصري خارج مصر، وخصوصاً بين العرب والمسلمين والأفارقة والأسيويين الذين شاركوا في تأسيس ومؤتمرات دول عدم الانحياز، وإنحسار أو تعثر المد الصهيوني الاسرائيلي في أفريقيا وآسيا، والاصلاح الزراعي الذي بدأ بعد ثورة يوليو بأقل من 50 يوماً، وضمن ذلك انشاء الجمعيات الزراعية في معظم القرى المصرية. وتأميم قناة السويس رغم المتاعب التي جلبتها على مصر، وتمصير الشركات الأجنبية، والتصنيع المتطور وبرنامج الطاقة النووية ومؤسسة الطاقة الذرية، وهى كلها برامج تنموية طموحة لولا التحديات الخارجية من جانب الغرب، أقصد أمريكا وأوروبا واسرائيل، والخداع أحياناً من جانب الشرق، أقصد الاتحاد السوفييتي.
ومن هذا التصنيع، مشروعات الصناعات الثقيلة، ويشمل ذلك الحديد والصلب والأسمنت وعربات السكك الحديد، ويأتي في قمة ذلك مشروع السد العالي وإستصلاح الأراضي وانتشار التعليم والوحدات الصحية والكهرباء والمياه حتى في معظم قرى الريف. إنتقل عبدالناصر إلى رحمة الله تعالى، وديون مصر حسب الاحصاءات مليار دولار قيمة أسلحة إشترتها مصر من الخارج، لإعادة بناء الجيش وتطوير امكاناته وخصوصاً بعد هزيمة 1967 المهينة والمشينة، وكانت قيمة الجنيه المصري أكثر من ثلاث دولارات.
وفوق هذا وذاك، ذلك الموقف العظيم الشعبي العربي الواعي لخطورة إسرائيل والحركة الصهيونية، ولذلك لم يتوقع أحد أبداً أن تتغير السياسة المصرية-رغم فلسفة الثورة- على يد أحد أبرز القائمين بالثورة أنور السادات إلى هذا الحد الذي سارت فيه متمثلاً في زيارة القدس ثم إتفاقية كامب ديفيد وخصوصاً بعد إنتصار أكتوبر 1973، إلى أن وصل مبارك الذي هبط على مصر بالباراشوت وأصبح الوريث للثورة العظيمة، لأن يكون كنزاً استراتيجياً لاسرائيل، ويسعى لتوريث الحكم للعائلة على غرار الملكية الفاسدة مرة أخرى.
كان أجمل ما قرأت، من ناحية الكتابة المنضبطة في ظني، بالشرع والتاريخ والقيم، ما كتبه العلامة الدكتور القرضاوي في مذكراته القيمة عن العلاقات بين الإخوان وجمال عبدالناصر، وعن أثر عبدالناصر في شعوب الخليج رغم عداوته للحكام، وعن أثر وفاة عبدالناصر المفاجئ على الشعوب العربية وخصوصاً أهل الخليج ويأتي ذلك بشيء من التفصيل في المقال الثاني بمشيئة الله تعالى.
‘ كاتب مصري- القدس العربي .